ما تزال الكثير من صفحات الجهاد والنضال الذي خاضته الشعوب العربية والإسلامية يطويه النسيان، رغم روعة الجهاد وعظم التضحيات، ولعل ذلك يرجع إلى أن مَن كتب تاريخ المرحلة الاستعمارية في بعض هذه البلدان كان هو الاستعمار نفسه، حيث اهتم بـ"بطولاته وإنجازاته" والحركات التي هددت مصيره فقط!! أما مجمل الحركة الوطنية الشعبية فتركها نهبا للنسيان، وعول على السنين وضعف ذاكرة الشعوب لمحو هذه البطولات التي تكشف عن حقيقة هامة ومركزية؛ وهي أن الشعوب المسلمة ليست شعوبا ميتة، كما أنها شعوب تنشد الحرية والكرامة، وليست مجبولة على الخضوع والخنوع والقابلية للإذعان.
كما تكشف هذه الصفحات أيضا أن حركات التحرر الوطني لا تنمو فجأة، ولكن تسبقها مرحلة طويلة من التحضير والنضال الطويل حتى تستوي على سوقها.
ولا ننسى هنا كذلك أن بعض المؤرخين كانوا متأثرين بالمدرسة الاستعمارية، ونظروا إلى الشعوب وكفاحها من نفس المنظور الاستعماري؛ حيث أهملوا حركة الشعب، وانصب اهتمامهم على حركة المستعمر وحركة السلطة التي تولت الحكم بعد الاستعمار!!
الاستعمار الفرنسي
كان الاستعمار الفرنسي للجزائر غزوا متعدد الأهداف والاتجاهات، ومن ثم تعددت جبهات مقاومته؛ فـ"نفسيا" رفض الشعب الجزائري الخضوع لسلطة "الكافر"، ومن هنا كانت العقيدة أول الخيوط التي اعتصم بها الشعب في مواجهة الفرنسيين، ثم "كانت الغيرة على العرض والأرض" دافعا للمقاومة؛ إذ كانت بشاعات جنود الاحتلال تسبقهم، وكانت حكايات افتراس الجنود لأعراض الصبايا الصغيرات وهدم المساجد ذات أثر فعال في إشعال جذوة الجهاد في النفوس.
ونشير هنا إلى أن السلطة الرسمية الممثلة في الباي حسين باشا لم تصمد أمام الفرنسيين؛ فهربت من الميدان، وتركت الشعب ليواجه مصيره على يد استعمار يستهدف العقيدة والثروة.. تذكر المراجع الفرنسية أن الجنود الفرنسيين الذين جاءوا إلى الجزائر على متن (675) سفينة كانوا من الفلاحين الجهلة الذين خرجوا تحت شعارات تخليص الجزائريين من الاستبداد ومنحهم الحرية (حيث كانت الأفكار المثالية عن عبء الرجل الأبيض منتشرة في أوروبا في تلك الفترة) فلما دخل الفرنسيون الجزائر بعث الرئيس الأمريكي "ثيودور روزفلت" ببرقية تهنئة إلى الفرنسيين يعبر فيها عن امتنانه لباريس عن دورها في تخليص الأمم المتحضرة من هؤلاء القراصنة.
دخل الفرنسيون الجزائر العاصمة بعد هروب السلطة والجيش، فكان في انتظارهم الخزناجي (وزير المالية) ليسلم للقائد الفرنسي "بورمون" مفاتيح خزائن البلاد، وعندما فتح الفرنسيون الخزينة وجدوا فيها أكثر من 50 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم جدا في ذلك الوقت (ويمكن لنا هنا أن نذكر ما حدث في العراق) فحدثت عمليات اختلاس كبيرة لهذه الأموال من القادة الفرنسيين أنفسهم.
وذكر بعض المؤرخين الفرنسيين أن هؤلاء القادة تبادلوا الاتهامات، ونسوا ما جاءوا من أجله، أما الجنود فيقول مؤرخ الجيش الفرنسي "بول أزان": إنهم اشتغلوا بالنهب، "وليس إعادة الإعمار"!!
الشعب والاستعمار
رأى أعيان الجزائر هذا الفساد من الفرنسيين، فتملك بعضهم شعور الصدمة، وردد آخرون "مكتوب …مكتوب"، وأصاب آخرين الخوف، واعتكفوا في المساجد للاحتماء من هذا الخطر الداهم!!
كان هناك فراغ هائل في السلطة الجزائرية بعد هروب الحاكم وذوبان السلطة؛ خاصة أن الفرنسيين أوقعهم جهلهم بالشعب واللغة، وقراراتهم الإدارية المتخبطة في مشكلات كبيرة أدت إلى الفوضى وغياب الأمن، وقاموا بترحيل جماعي للعثمانيين الذين حكموا البلاد طيلة 3 قرون، والذين امتلكوا خبرة واسعة بالشئون الإدارية والسجلات؛ كذلك اعتمدوا على اليهود والانتهازيين، وأنشئوا فرقة تسمى "فرقة باريس" جمعت حثالة فرنسا من المجرمين واللصوص وكانت مكلفة بحفظ الأمن، وأنشئوا نواة لجنة للإدارة كان لليهود حضور بارز فيها، ثم شكلوا تكوينات من الشرطة المحلية كانت مثالا للفساد والانحراف. وسعى القائد الفرنسي "بورمون" لتأسيس قوة عسكرية محلية من سكان الجبال (البربر) وتم تشكيل فرقة، لكن الشبان المسلمين فروا منها (تذكر ما فعله الأمريكان بالعراق)؛ ففشل المشروع في ذلك الوقت، فشكل الفرنسيون فرقة تسمى "اللفيف الأجنبي" (تشبه قوات التحالف الدولي) كانت وبالا على الفرنسيين.
وأثارت "الروح الصليبية" التي ظللت الحملة ودعوات التنصير غضب المسلمين، حيث حول الفرنسيون عددا من المساجد إلى كنائس، وتم هدم المقابر الإسلامية وأخذ عظام موتى المسلمين وشحنها إلى فرنسا لتُستخدم في صناعة الفحم وتبييض السكر!!
أحس الجزائريون أن هذه الحملة ليست كغيرها تضرب وتنهب ثم تعود لبلادها، لكنها غزو من أجل البقاء الدائم؛ وكان هذا الشعور كافيا لإشعال فتيل المقاومة في النفوس والدعوة إلى أن ينظم الشعب نفسه، وأن يبحث عن قيادة جديدة بعد أن سقطت السلطة المركزية التي كانت تشبه الإسفنجة التي تمتص طاقات الشعب وثرواته بشراهة ثم تتنازل عنها للعدو الخارجي مع أقل ضغط، وكانت المحنة صعبة على شعب لم يشارك في الحكم لقرون طوال، ولا يعرف عن العالم الخارجي إلا القليل.
الشعب ينظم المقاومة
كبت الفرنسيون مقاومة الجزائر في العاصمة، أما الريف فانطلقت فيه مقاومة عملاقة تلقائية قادها الزعماء الجدد الذين ملئوا فراغ غياب السلطة، وكان هؤلاء هم علماء الدين والقيادات الوطنية المحلية التي عقدت اجتماعا عرف باسم "اجتماع البرج" في (3 من صفر 1246هـ= 23 من يوليو 1830م)، برزت فيه بعض الزعامات الشعبية، مثل: "محمد بن زعمون" زعيم قبيلة "فليسة"، وكان عمره 70 عاما، وولديه "الحسين" و"حمدان"، وقرر زعماء القبائل بعد نقاش طويل إعلان الحرب على الاحتلال، وعدم ترك الجنود الفرنسيين يخترقون أرض الجزائر كما يفعل السكين في الزبد، وتكونت فرقة شعبية من 7 آلاف مقاتل تحت قيادة "الحسين بن زعمون" الذي كان عاشقا للجهاد.
هاجمت هذه القوات جيش الفرنسيين الذي أرهقه البقاء محاصرا داخل العاصمة، واستطاعت هذه القوات قتل (15) من الجنود الفرنسيين، فعاد الفرنسيون إلى العاصمة وحبات العرق من خزي الهزيمة وحر المناخ تتساقط من جباههم، وكانت تلك أول مواجهة بين المقاومة والاحتلال؛ فكانت نصرا معنويا كبيرا، ولم يستطع الفرنسيون الخروج مرة أخرى خلال تلك الفترة.
تكررت المعارك بين المقاومة الشعبية والاحتلال، وبدأت هذه المقاومة بقيادة "ابن زعمون" تتحرك برؤية تكتيكية؛ حيث هاجم مزارع المستوطنين الفرنسيين، وقتل بعضهم، وأحرق بعض المزارع؛ ما أربك الاحتلال (قارن تدمير المقاومة العراقية أنابيب النفط) وهدد الوجود الاستعماري.
برزت شخصية شعبية أخرى هي الحاج "علي السعدي" الذي تزعم المقاومة عندما رأى أعيان الجزائر قد لجئوا إلى الصلح منتظرين أن يفي الاحتلال بعهوده؛ فاتصل بكل من له استعداد للمقاومة وحرضهم على الجهاد، وخرج إلى الريف فوجد الاستعدادات أكثر والطاعة أقرب، فالتف حوله الطلاب وبعض الأعيان، ورفض دخول العاصمة لأنها تحت سلطة (كافر). ثم شاعت في أوساط المقاومين أن "السعدي" رأى في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بقرب هزيمة الفرنسيين؛ فكان لهذه الرؤيا أثرها في تهافت المجاهدين عليه.
كانت روح الجهاد تظلل تلك الفترة من الكفاح الشعبي ضد الاحتلال، وكانت غالبية الزعامات لا تبحث عن ذاتها أو مصالحها؛ لذا كانت التحالفات بين المقاومات سمة بارزة؛ فتحالف "ابن زعمون" مع "السعدي" تحت راية واحدة، وتمكنا من تهديد العاصمة نفسها. ومن أهم معارك تلك الفترة "زاوية محمد القوري" التي قتلوا فيها (57) جنديا من المرتزقة الفرنسيين.
اجتماع "سوق علي"
عقدت المقاومة الشعبية اجتماعا سمي بـ"سوق علي" في (ربيع ثان 1248هـ= سبتمبر 1832م) جمع كلمة المجاهدين تحت قيادة "ابن زعمون" لمواصلة الجهاد ومهاجمة المزارع، واستشهد القائد الميداني "حسين بن زعمون"، فاستمر والده الطاعن في السن في قيادة المقاومة الشعبية حتى عام (1253هـ=1837م).
نماذج من المقاومة الشعبية
* مصطفى بومرزاق: وكان واليا لإقليم "التيطري" وكان معروفا بالشجاعة، وحالف الفرنسيين في البداية، إلا أن ضميره الوطني والديني لم يرض عن ذلك، فسرعان ما أعلن الحرب على الفرنسيين، وحارب جيش الحاكم "كلوزيل" وقتل منه (27) جنديا في معركة مضيق "موازية"، ووصف "كلوزيل" المقاومين بأنهم "برابرة متعصبون" (وهو اتهام يشابه الإرهاب في عصرنا) لكنه وقع !