وسائل الاتصال المتوافرة ووسائط النقل العملاقة والمحطات الفضائية الغزيرة وشبكة المعلومات الدانية، ومعنى هذا أن تزدهر الدراسات الأدبية المقارنة أقصى الازدهار ولا سيما الدراسات الأدبية المقارنة في الوطن العربي، إذ تبدو دراسات الأدب المقارن نادرة ومنبتة عن المشهد الأدبي العالمي، ولسنا بصدد تفسير ذلك بناءً على الظرف السياسي القاهر الذي يعيشه وطننا العربي إذ لابد أن يكون هذا العامل جوهرياً في هذا الانقطاع عن المشهد الأدبي العالمي إلا فيما ندر، ويمكن أيضاً أن نعلل مثل هذه الظاهرة بافتقاد عنصر الدهشة في عصرنا هذا إذ يمكنك أن ترى فيه وبالصورة المتحركة والملونة مصحوبة بنبرات الصوت الحي ما تشاء من معتقدات وطقوس ومفاهيم وأفكار تخص الآخر الذي تفصلك عنه آلاف الكيلومترات بل ربما تكون أنت في جهة من هذه الكرة الأرضية ويحل الآخر في الجهة الأخرى منها، وقد تكون في فجر يومك وهو في أواخر يومه في غضون اللحظة ذاتها.
بيد أن تخصص الأدب المقارن لم يفقد بريقه الأخاذ وسعة صدره ونكهته الخاصة التي لا نجدها في تخصصات الأدب الأخرى فضلاً عن أنه بطريقة وبأخرى يقرب بين الشعوب، ويردم الفجوات السحيقة التي قد تفصل بينها، بل إنه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك وحدة الهم الانساني وأن ما يشغل الإنسان في شرق الأرض يشغله في غربها وشمالها وجنوبها، إنه البحث عن المحور المشترك والبؤرة الأساس التي لفتت أنظار النابهين من أبناء الأجيال المتتالية والباحثين والدارسين والمهتمين الذين من شأنهم رفد هذا التخصص الشيق بالجديد والمبتكر.
ومما يميز تخصص الأدب المقارن أنه لا يمتلك جذوراً عميقة في التراث الأدبي العالمي قياسياً بالأنواع الأدبية العريقة كتاريخ الأدب والنقد الأدبي وسواهما، فقد ظهرت نواة الأدب المقارن وبداياته منذ أقل من قرنين من الزمان وفي هيئة ملاحظات غالباً ما تندرج تحت إطار أنماط أخرى من أنماط الأدب وفنونه، ولم يستقل هذا النمط من التخصص الجديد وأعني به الأدب المقارن إلا في أوائل القرن الميلادي السابق الذي شهدنا خاتمته «القرن العشرين» حيث استقر له كيان مستقل الى حد ما وتبلورت له مفاهيم وخصائص مميزة، ولا سيما في ظل الدراسات الأكاديمية وفي أروقة الجامعات التي شهدت بزوغ المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن.
وتختلف آراء الاوروبيين وتحديداتهم لدائرة اهتمام تخصص الادب المقارن، ففي الوقت الذي يرى فيه «فان تيجم» وهو احد رواد المدرسة الفرنسية للأدب المقارن انه "دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض(1) فان «جويار» الذي ينتمي للمدرسة الفرنسية ذاتها والذي افاد من سلفه «فان تيجم» يعرف الأدب المقارن على انه "تاريخ العلائق الادبية الدولية فالباحث المقارن يقف عند الحدود اللغوية والقومية، ويراقب مبادلات الموضوعات والكتب والعواطف بين ادبين او عدة آداب»(2) وبهذا فان «جويار» يشير الى الجذر التاريخي لهذا النمط من التخصص ولا سيما في اطار المدرسة الفرنسية التي لاتعترف بالمقارنة بين ادبين او ظاهرتين ادبيتين الا بعد وجود مايثبت التأثر والتأثير ولا يتم هذا الا بالاستعانة بكتب التاريخ، بيد ان هذا لايعني التطابق بين الادب المقارن وتاريخ الأدب فلكل من التخصصين مجاله وحدوده ويتأكد لنا انتماء الدكتور محمد غنيمي هلال الى المدرسة الفرنسية من خلال توكيده على الجذر التاريخي للأدب المقارن وعبر تعريفه له بأنه «ذو مدلول تاريخي، ذلك انه يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها او في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير او تأثر اياً كانت مظاهر ذلك التأثر او التأثير(3) ومساهمة الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه الأدب المقارن اضافة رائدة في ميدان الأدب المقارن العربي، وهي خطوة نادرة في حينها لاسيما ان الدكتور هلال تمثل أدب امته العربية واستوعب اسراره وحين ذهب الى فرنسا دارساً وضع يده على محاور اساسية وفيما يتعلق بهذا التخصص المهم واعنى به الأدب المقارن، وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن على مصنفه المهم في «الادب المقارن» فان غزارة ما ورد فيه من موضوعات تصلح مادة للادب المقارن ما تزال ركيزة مهمة للدراسات المقارنة اللاحقة