هي قصّة واقعية حصلت أحداثها في مدينة بيروت في ثمانينات القرن الماضي، بداية القصة أمٌّ في ريعان الشباب في العقد الثالث من العمر ، توفي زوجها وترك لها أربعة أطفالٍ ذكورٍ أكبرهم لم يقارب الحلم بعد، الوالد الذي كان يحمل عِبأ العائلة ويسعى جاهدًا لتلبية رغبات أطفاله شأنه شأن غالب عائلات الطبقة المتوسطة في لبنان من بذل الجُهد للحصول على عيشةٍ كريمةٍ، ولكن فاجأه الموت وجاءه من حيث لا يعلم.
الأم الشابة لم يُقعدها عن الاهتمام بأطفالها فقد الحبيب، بل شمّرت عن ساعد الهمّة لتؤمِّن لأطفالها المعيشة الكريمة التي كانوا يحظون بها، وفعلاً بحثت عن عمل يليق بها إلى أن وجدته، ومن غير كللٍ ولا ملل كانت تستيقظ في الصباح الباكر تكوي ثياب أطفالها وتحضِّر لهم الطعام، ثم تجهِّزهم للمدرسة تلبس هذا (مريوله) وتربط حذاء هذا
وتمشط شعر ذاك، حتى إذا ما اطمأنت على أن فلذات كبدها قد تجهّزوا للمدرسة نظرت إليهم نظرة الحبِّ والحنان وضمّتهم واحدًا واحدًا تقبِّلهم قبلات المشتاقِ لمجرد أنهم سيغيبون بضع ساعاتٍ عن ناظريها.
يذهب الأولاد إلى المدرسة وتذهب هي إلى العمل، ثم تعود إلى المنزل قبل عودتهم، تحضِّر لهم طعام الغداء حتى لا ينتظروا وهم جياع، يحضُر الأطفال يخلعون أحذيتهم وثيابهم المدرسية ثم يأكلون ما حضّرته لهم الوالدة من الطعام اللذيذ، ثم يبدأ وقت الدرس، الأم الصابرة على مشقات الحياة تدرِّس أولادها الأربعة دروسهم كلها، حتى يدخل الليل، ثم تقوم وقد أنهكها التعب الشديد فتحضِّر لهم طعام العشاء فيأكلون ثم ينامون، وتبقى الأم مستيقظة تقوم بتنظيف البيت وغسل الثياب وتهيئة الطعام لليوم الثاني، حتى إذا ما انتصف الليل نامت نوم المغمى عليها من شدة التعب ، ومضت الأشهر والسنوات سِرَاعًا وكبر الأولاد ودخلوا جميعًا الجامعة، والأمُّ هي هي تقوم بالخدمة بلا كللٍ ولا ملل، تعمل في النهار وتصرف كل مدخولها على أولادها، أقساط الجامعة الثياب الطعام وكل حاجيات الشباب، والحال هي الحال والأيام تتلو الأيام الشباب يتخرجون من الجامعة يعملون تخطب لهم تزوجهم وكلٌ في بيته مستقرٌ مع زوجته، والأم في بيتها وحيدة وقد ناهزت الستين من العمر...
وتمر الأعوام ... والأم المتعبة الجسد مما قاسته في سنين حياتها يصيبها شللٌ يقعِدُها... وهنا تبدأ العِبرة...
يجتمع أولادها ويقررون كل واحدٍ يستقبل أمّه أسبوعًا كاملاً من كلِّ شهرٍ، والأم العاجزة يزداد حالها سوءًا لدرجة أنها لم تعد تستطيع الكلام ولا الحركة وأولادها ينقلونها على كرسيّها ذي الدولابينِ من منزلٍ إلى منزل، وككثيرٍ من أمثال هذه الحالات، زوجات الأولاد يتأفّفن ويتذمّرن ويُسمِعْن الأم العاجزة الكلام المؤذي، وبدل أن يقوم الرجال بخدمة أمِّهم ويعتنوا بها كما اعتنت بهم منذ ولادتهم ويتحمّلوا مشقة خدمتها كما تحمّلت المشقات لأجلهم منذ أن كانوا في بطنها وإلى أن تزوجوا وأصبحوا رجالاً يعتمدون على أنفسهم، قاموا بالتذمُّر هم أيضًا وصار كل واحدٍ يحاول أن يلقي عبأ خدمة أمِّه على أخيه الآخر.... الأربعةُ وزوجاتهم لا يتحمّلون الأم العاجزة!!
الأربعةُ يتشاجرون فيما بينهم، الكل يريد الأم عند غيره والأم تسمع وترى ولكن لا حول لها ولا قوة...
الحسرة تأكل قلبها، والدمعة تنأسِرُ في عينها، إلى أن جاءت الليلة الحزينة...
الصغير الذي كان دوْرُه في تحمّل الأمِّ يريد أن يذهب إلى سهرة مع الأصحاب هو وزوجتُه لم تتحمل نفسه المريضة الغياب عنها لما فيها من اللهو والمتعة ولكن ماذا يفعل؟؟ الأمّ عقبة!! أمُّه وجودُها عقبة تحول دونه ودون السهرة!!!
ثم خطرت له الفكرة، فاتصل بالهاتف بأخيه الكبير .. وقال: يا أخي عندي سهرة أريد الذهاب إليها وسوف أُحضر أمّك الليلة عندك... يجيبُه الأخ الكبير وقد علا صوتهُ وظهر عليه الغضب : لا تفعل إن أحضرتها فلن أفتح لكم الباب!!! ودار الشجار... الأخ الصغير مُصِّرٌّ على قراره، والكبير متشبِّثٌ بكلامِه، وانتهت المكالمة....
وكل هذا على مسمع الأم!!! ثم قام الأخ الصغير وأخذ أمَّه إلى بيتِ أخيهِ وكان الليل ألقى سُدوله والظلامُ قد اشتدّ سوادُه، دقَّ الباب... فلم يفتح أحد، دقَّ ثانيةً ... فلم يُجِب أحد... قال بصوتٍ مرتفِع : أنا أعلم أنك في الداخل هذه أمُّك على الباب سأتركها وأذهب... وفعلاً نفَّذ تهديده!!!
ترك أمّه لوحدها خارج منزل أخيه الكبير الذي لم يفتح الباب... الأم تسمع وترى ودموعها تنهمر على خدّيها طوال الليل، وهي على كرسيها المدولب، لا تستطيع النطق ولا الحراك خارج منزل ولدِها... والباب موصدٌ في وجهها ولا أحد يُبالي بها، أهي جائعة؟؟؟؟ أهي متعبة تحتاج إلى من يمدِّدها ؟؟؟ أهي عطشى تحتاج إلى شربة ماء؟؟؟؟ وحيدة... بعد كل هذه التضحيات يُقابلها من ضحّت لأجلهم بهذا العُقوق، وهذه القلوب القاسية، وهي في ظُلمة الليل ولسان حالها يقول : هؤلاء الذين نزلوا من بطني!!! هؤلاء الذين أرضعتهم من ثديي !!! هؤلاء الذين كنت أُزيل عنهم الغائِط وهم صِغار وأسهر عليهم وهم مرضى الليل الطويل وقلبي يخفِق من القلق وعيني تبكي من الألم على ألمِهم !!!! كالريح في خدمتهم ليل نهار، كم أيقظوني في الليل ينادون أمي أريد أن أشرب!!! كم قصدوني عند حاجاتهم فوجدوا عندي الصدر الحنون؟؟؟ أهؤلاء الذين كنت أفرح لفرحِهم وأحزن لحزنهم ؟ وأتألّم لآلامهم وأضحك لسرورهم؟ مضى العمر يا أولادي كلمح البصر وها أنا ذليلة وحيدة متعبة جائعة عطشى ولا أجد يد واحدٍ منكم تأخذ بيدي!!
انقضى الليل وأطل الصباح بأنواره، قام الأخ الأكبر فتح الباب وإذا بأُمِّه عند الباب، نعم ما زالت عند الباب ولكن .... ميِّتة، ماتت هذه الأم بعد كل هذه المعاناة...
فيا أيها الأحبّة إياكم وعقوق الوالدين .... إيّاكم وإيذاء الوالدين ....
اللهم اجعلنا من البارِّين بوالِدينا ولا تجعلنا من أصحاب القلوب القاسية الذين يعقّون أهليهم آمين يا رب العالمين...