*استصناعٌ
التعريف
1 - الاستصناع في اللّغة : مصدر استصنع الشّيء : أي دعا إلى صنعه ، ويقال : اصطنع فلانٌ باباً : إذا سأل رجلاً أن يصنع له باباً ، كما يقال : اكتتب أي أمر أن يكتب له . وفي الاصطلاح هو على ما عرّفه بعض الحنفيّة : عقدٌ على مبيعٍ في الذّمّة شرط فيه العمل . فإذا قال شخصٌ لآخر من أهل الصّنائع : اصنع لي الشّيء الفلانيّ بكذا درهماً ، وقبل الصّانع ذلك ، انعقد استصناعاً عند الحنفيّة ، وكذلك الحنابلة ، حيث يستفاد من كلامهم أنّ الاستصناع : بيع سلعةٍ ليست عنده على غير وجه السّلم ، فيرجع في هذا كلّه عندهم إلى البيع وشروطه عند الكلام عن البيع بالصّنعة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة : فقد ألحقوه بالسّلم ، فيؤخذ تعريفه وأحكامه من السّلم ، عند الكلام عن السّلف في الشّيء المسلم للغير من الصّناعات . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإجارة على الصّنع :
2 - الإجارة على الصّنع هي عند بعض الفقهاء : بيع عملٍ تكون العين فيه تبعاً . فالإجارة على الصّنع تتّفق مع الاستصناع في كون العمل على العامل ، وهو الصّانع في الاستصناع ، والأجير في الإجارة على الصّنع . ويفترقان في محلّ البيع . ففي الإجارة على الصّنع : المحلّ هو العمل ، أمّا في الاستصناع : فهو العين الموصوفة في الذّمّة ، لا بيع العمل . وفرقٌ آخر هو أنّ الإجارة على الصّنع تكون بشرط : أن يقدّم المستأجر للعامل « المادّة » ، فالعمل على العامل ، والمادّة من المستأجر ، أمّا في الاستصناع : فالمادّة والعمل من الصّانع .ب - السّلم في الصّناعات :
3 - السّلم في الصّناعات هو نوعٌ من أنواع السّلم ، إذ أنّ السّلم إمّا أن يكون بالصّناعات أو بالمزروعات ، أو غير ذلك . والسّلم هو : « شراء آجلٍ بعاجلٍ » فالاستصناع يتّفق مع السّلم بصورةٍ كبيرةٍ ، فالآجل الّذي في السّلم هو ما وصف في الذّمّة ، وممّا يؤكّد هذا جعل الحنفيّة مبحث الاستصناع ضمن مبحث السّلم ، وهو ما فعله المالكيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ السّلم عامٌّ للمصنوع وغيره ، والاستصناع خاصٌّ بما اشترط فيه الصّنع ، والسّلم يشترط فيه تعجيل الثّمن ، في حين أنّ الاستصناع التّعجيل - فيه عند أكثر الحنفيّة - ليس بشرطٍ .ج - الجعالة :
4 - الجعالة هي : التزام عوضٍ معلومٍ على عملٍ معيّنٍ أو مجهولٍ عسر عمله ، وهي عقدٌ على عملٍ . فالجعالة تتّفق مع الاستصناع في أنّهما عقدان شرط فيهما العمل . ويفترقان في أنّ الجعالة عامّةٌ في الصّناعات وغيرها ، إلاّ أنّ الاستصناع خاصٌّ في الصّناعات ، كما أنّ الجعالة العمل فيها قد يكون معلوماً ، وقد يكون مجهولاً ، في حين أنّ الاستصناع لا بدّ أن يكون معلوماً . معنى الاستصناع :
5 - اختلف المشايخ فيه ، فقال بعضهم : هو مواعدةٌ وليس ببيعٍ . وقال بعضهم : هو بيعٌ لكن للمشتري فيه خيارٌ ، وهو الصّحيح ، بدليل أنّ محمّداً رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان ، وذلك لا يكون في العدّات . وكذا أثبت فيه خيار الرّؤية ، وأنّه يختصّ بالبياعات . وكذا يجري فيه التّقاضي ، وأنّ ما يتقاضى فيه الواجب ، لا الموعود . وهناك رأيٌ عند بعض الحنفيّة أنّه وعدٌ ، وذلك لأنّ الصّانع له ألاّ يعمل ، وبذلك كان ارتباطه مع المستصنع ارتباط وعدٍ لا عقدٍ ؛ لأنّ كلّ ما لا يلزم به الصّانع مع إلزام نفسه به يكون وعداً لا عقداً ، لأنّ الصّانع لا يجبر على العمل بخلاف السّلم ، فإنّه مجبرٌ بما التزم به ؛ ولأنّ المستصنع له الحقّ في عدم تقبّل ما يأتي به الصّانع من مصنوعٍ ، وله أن يرجع عمّا استصنعه قبل تمامه ورؤيته ، وهذا علامة أنّه وعدٌ لا عقدٌ .الاستصناع بيعٌ أم إجارةٌ :
6 - يرى أكثر الحنفيّة والحنابلة أنّ الاستصناع بيعٌ . فقد عدّد الحنفيّة أنواع البيوع ، وذكروا منها الاستصناع ، على أنّه بيع عينٍ شرط فيه العمل ، أو هو بيعٌ لكن للمشتري خيار الرّؤية ، فهو بيعٌ إلاّ أنّه ليس على إطلاقه ، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع ، والمعروف أنّ البيع لا يشترط فيه العمل . وقال بعض الحنفيّة : إنّ الاستصناع إجارةٌ محضةٌ ، وقيل : إنّه إجارةٌ ابتداءً ، بيعٌ انتهاءً .صفة الاستصناع : حكمه التّكليفيّ :
7 - الاستصناع - باعتباره عقداً مستقلاًّ - مشروعٌ عند أكثر الحنفيّة على سبيل الاستحسان ، ومنعه زفر من الحنفيّة أخذاً بالقياس ؛ لأنّه بيع المعدوم . ووجه الاستحسان : استصناع الرّسول صلى الله عليه وسلم الخاتم ، والإجماع من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون نكيرٍ ، وتعامل النّاس بهذا العقد والحاجة الماسّة إليه . ونصّ الحنابلة على أنّه لا يصحّ استصناع سلعةٍ ، لأنّه بيع ما ليس عنده على وجه غير السّلم ، وقيل : يصحّ بيعه إلى المشتري إن صحّ جمعٌ بين بيعٍ وإجارةٍ منه بعقدٍ واحدٍ ؛ لأنّه بيعٌ وسلمٌ .حكمة مشروعيّة الاستصناع :
8 - الاستصناع شرع لسدّ حاجات النّاس ومتطلّباتهم ؛ نظراً لتطوّر الصّناعات تطوّراً كبيراً ، فالصّانع يحصل له الارتفاق ببيع ما يبتكر من صناعةٍ هي وفق الشّروط الّتي وضع عليها المستصنع في المواصفات والمقايسات ، والمستصنع يحصل له الارتفاق بسدّ حاجيّاته وفق ما يراه مناسباً لنفسه وبدنه وماله ، أمّا الموجود في السّوق من المصنوعات السّابقة الصّنع فقد لا تسدّ حاجات الإنسان . فلا بدّ من الذّهاب إلى من لديه الخبرة والابتكار .أركان الاستصناع :
أركان الاستصناع هي : العاقدان ، والمحلّ ، والصّيغة .
9 - أمّا الصّيغة ، أو الإيجاب والقبول فهي : كلّ ما يدلّ على رضا الجانبين « البائع والمشتري » ومثالها هنا : اصنع لي كذا ، ونحو هذه العبارة لفظاً أو كتابةً .
10 - وأمّا محلّ الاستصناع فقد اختلف فقهاء الحنفيّة فيه ، هل هو العين أو العمل ؟ فجمهور الحنفيّة على أنّ العين هي المعقود عليه ، وذلك لأنّه لو استصنع رجلٌ في عينٍ يسلّمها له الصّانع بعد استكمال ما يطلبه المستصنع ، سواءٌ أكانت الصّنعة قد تمّت بفعل الصّانع أم بفعل غيره بعد العقد ، فإنّ العقد يلزم ، ولا تردّ العين لصانعها إلاّ بخيار الرّؤية . فلو كان العقد وارداً على صنعة الصّانع أي « عمله » لما صحّ العقد إذا تمّت الصّنعة بصنع غيره . وهذا دليلٌ على أنّ العقد يتوجّه على العين لا على الصّنعة . ويرون أنّ المتّفق عليه أنّ الاستصناع ثبت فيه للمستصنع خيار الرّؤية ، وخيار الرّؤية لا يكون إلاّ في بيع العين ، فدلّ ذلك على أنّ المبيع هو العين لا الصّنعة . ومن الحنفيّة من يرى أنّ المعقود عليه في الاستصناع هو العمل ، وذلك لأنّ عقد الاستصناع ينبئ عن أنّه عقدٌ على عملٍ ، فالاستصناع طلب العمل لغةً ، والأشياء الّتي تستصنع بمنزلة الآلة للعمل ، ولو لم يكن عقد الاستصناع عقد عملٍ لما جاز أن يفرد بالتّسمية .الشّروط الخاصّة للاستصناع :
11 - للاستصناع شروطٌ هي :
أ - أن يكون المستصنع فيه معلوماً ، وذلك ببيان الجنس والنّوع والقدر . والاستصناع يستلزم شيئين هما : العين والعمل ، وكلاهما يطلب من الصّانع .
ب - أن يكون ممّا يجري فيه التّعامل بين النّاس ؛ لأنّ ما لا تعامل فيه يرجع فيه للقياس فيحمل على السّلم ويأخذ أحكامه .
ج - عدم ضرب الأجل : اختلف في هذا الشّرط ، فمن الحنفيّة من يرى أنّه يشترط في عقد الاستصناع خلوّه من الأجل ، فإذا ذكر الأجل في الاستصناع صار سلماً ، ويعتبر فيه شرائط السّلم . وقد استدلّوا على اشتراط عدم ضرب الأجل في الاستصناع : بأنّ السّلم عقدٌ على مبيعٍ في الذّمّة مؤجّلاً . فإذا ما ضرب في الاستصناع أجلٌ صار بمعنى السّلم ولو كانت الصّيغة استصناعاً . وبأنّ التّأجيل يختصّ بالدّيون ؛ لأنّه وضع لتأخير المطالبة ، وتأخير المطالبة إنّما يكون في عقدٍ فيه مطالبةٌ ، وليس ذلك إلاّ في السّلم ، إذ لا دين في الاستصناع . وخالف في ذلك أبو يوسف ومحمّدٌ ، إذ أنّ العرف عندهما جرى بضرب الأجل في الاستصناع ، والاستصناع إنّما جاز للتّعامل ، ومن مراعاة التّعامل بين النّاس رأى الصّاحبان : أنّ . الاستصناع قد تعورف فيه على ضرب الأجل ، فلا يتحوّل إلى السّلم بوجود الأجل . وعندهما : أنّ الاستصناع إذا أريد يحمل على حقيقته ، فإنّ كلام المتعاقدين يحمل على مقتضاه ، وإذا كان كذلك فالأجل يحمل على الاستعجال لا الاستمهال ، خروجاً من خلاف أبي حنيفة .الآثار العامّة للاستصناع :
12 - الاستصناع عقدٌ غير لازمٍ عند أكثر الحنفيّة ، سواءٌ تمّ أم لم يتمّ ، وسواءٌ أكان موافقاً للصّفات المتّفق عليها أم غير موافقٍ . وذهب أبو يوسف إلى أنّه إن تمّ صنعه - وكان مطابقاً للأوصاف المتّفق عليها - يكون عقداً لازماً ، وأمّا إن كان غير مطابقٍ لها فهو غير لازمٍ عند الجميع ؛ لثبوت خيار فوات الوصف .ما ينتهي به عقد الاستصناع :
13 - ينتهي الاستصناع بتمام الصّنع ، وتسليم العين ، وقبولها ، وقبض الثّمن . كذلك ينتهي الاستصناع بموت أحد العاقدين ؛ لشبهه بالإجارة .
المصدر الموسوعة الفقهية الجزء الثالث