السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير
الدكتور عبد الإله الصائغ
كان اليونانيون سبّاقين إلى تقبل فكرة النقد الأدبي بسبب من اهتمامهم بالفلسفة وبلوغهم
شأواً بعيداً في الوعي الابستمولوجي، ولكن الثابت تاريخياً أن هناك مرحلة نقدية بسيطة سبقت عصر النقد اليوناني القار؛ وهذه المرحلة تجلو لنا النقد بهيئة تقنية يعرفها الشعراء الذين أخضعوا قصائدهم للحذف والتعديل ويمتحنون إيقاعاتها وفق المقامات الشفاهية المتوارثة لديهم، وإلا كيف نفسر نضج أعمال هوميروس الأدبية من نحو الإلياذة والأوديسة لو لم يكن هذان العملان مثلاً مسبوقين بتجارب نقدية مهمة تعتمد الخطأ والصواب وذائقة الجمهور،… وكان ظهور طبقة الرواة نقلة مهمة في اتضاح الأفكار النقدية البسيطة؛ فالراوي أساساً رجل موثوق به من جهة الشاعر أو الناثر الفني أو الجمهور، الراوي ذو ذائقة متميزة وذكاء حاد؛ فكان يعدّل النص ويعرضه على الشاعر فيرضى الشاعر ويثني عليه، ولسان حال الشاعر يقول ما قاله المتنبي في راويته وناقده ابن جني (أين صاحبي ابن جني فهو أعلم بشعري مني)!!.. ويجيء القرن السادس ق.م فيظهر الشعر التمثيلي، ضرباً يتطلب خبرة واسعة عميقة في صياغة النص ويستدعي التعامل مع مبادئ نقدية ترقى إلى تقاعيد وتقاليد يتبعها المبدع حين ينتج شعره التمثيلي ليرضى عنه الناقد وجمهوره، وصحب ذلك مسابقات بين الشعراء، وكل عمل مسرحي شعري أو قراءة شعرية كانت تقوّم مباشرة من قبل جمهور الحاضرين، فالجمهور حين يأنس للعمل الأدبي أو الفني يصفق طرباً ويرقص فرحاً وينثر الورد على الممثلين أو الشاعر، وحين يستاء يصفّر ويقذف الممثلين أو الشاعر بالبيض أو الطماطم، فضلاً عن وجود لجنة معترف بها تبدي رأيها بما شاهدت أو سمعت، فإذا قبلته الجماهير قدمت الهدايا للشاعر حالة الاستحسان أو حجبتها عن الشاعر حالة الاستياء!! فإذا رفض الشاعر آراء اللجنة وتعاطف الجمهور مع رفضه عرضت قرارات اللجنة للاقتراع .
وقد فعل هذا النقد فعله في صياغة النص وتعاطف الجمهور معه رغم بدائية هذا النقد وبدائية وسائله، ويكفي النقد أثراً أنه جعل الشعراء يلتفتون إلى الأرض والناس بعد أن تعلقت عيونهم بالسماء والآلهة، واهتموا بالطبقات الوسطى وهم الأكثرون بعد أن كانوا حريصين على الكتابة للصفوة والنخبة؛ ورصد منتجو الشعر التمثيلي حياة الناس فنقدوها ونقدوا الأساليب السياسية معها فكانت الملهاة عند أرسطو فانيس (448ق.م-380) الذي أثار مشكلة القدامة والحداثة في مسرحية (الضفادع) التي وصف فيها الشاعر اسخيلوس بأنه رمز للقديم!! وشاعر المأساة يوربيدس بأنه رمز للحديث؛ والمسرحية تصف ببراعة رحلة ديونسيوس إله المسرح إلى الدار الآخرة وخلال عبوره نهر العالم الآخر كانت جوقة الضفادع تناغم نقيقها مع ضربات المجاذيف في الماء بما شكل أغنية الطبيعة بعدها تبدأ مناظرة في العالم السفلي بين يوربيدس واسخيلوس تنتهي بهزيمة يوربيدس ليقتنع ديونيوس بأن اسخيلوس أجدر منه بالنقد الاجتماعي فيصادقه ويصطحبه معه إلى العالم الأرضي ليرشد بمسرحياته الاثينيين حتى يتطهروا من الضلال . لقد كان ظهور السوفسطائيين عاملاً مهماً في شيوع فن المناظرة والنقد والبحث عن المسوّغات إذ جرّح هؤلاء معظم القناعات القارة لأنهم يعتمدون المغالطة والمكر الكلامي وفق مخطط يعدونه مسبقاً يوازن بين قدرات السوفسطائي وقدرات غريمه، إنهم يختطفون النص ويغيرون مساره ويحولون القواعد الخاصة بظاهرة ما إلى ظاهرة أخرى!! وكان أهل السفسطة أول عهدهم معلمين جوالين نشروا المعرفة والفنون البلاغية بين الناس لكن سقراط وتلميذه أفلاطون هاجما اطروحاتهم التي كرست فكرة الجدل والمكر الكلامي قبل فكرة البحث عن الحقيقة!! بيد أن السوفسطائيين أسهموا في الوعي النقدي بين اليونانيين قبل سطوع نجمي سقراط وأفلاطون، بل إن محاولاتهم في النقد والأدب واللغة كانت (معيناً خصباً لبحوث أفلاطون وأرسطو في النقد) . وكانت آراء سقراط غير المدونة عوناً للنقاد اليونانيين فيما بعد وبخاصة لتلميذه الدؤوب أفلاطون، حتى قيل ان آراء الأستاذ والتلميذ قد اختلطت ولم يعد ممكناً الفصل بينهما!! وقد تميز أفلاطون (428ق.م-347ق.م) فأسس منهجاً علمياً للنقد ودعا إلى المثالية الموضوعية التي ترى أن الروح جوهر والمادة عرض! وهذه المثالية مختلفة عن المثالية الذاتية وبات كتابه (الجمهورية الفاضلة) مصدراً مهماً لآرائه في الشعر والنقد والمحاكاة ومحاكاة المحاكاة، فالحوار الذي اجترحه أفلاطون بين المنشد أيون وأستاذه سقراط يعطي انطباعاً واضحاً عن المشهد النقدي الذي ساد عهد ذاك وكان من بين ما أثاره الحوار: هل الشعر فن أم إلهام؟ وهل ثمة فرق بين مرجعيتي الشاعر والناقد وحرفتيهما وهدفيهما؟؟؟ فضلاً عن رؤية أفلاطون التي تؤسس دوراً محدوداً للمنشد، فهو (المنشد) حين ينشد شعر هوميروس مثلاً ويفسره إنما يعتمد على ذائقته وخبرته ولا يعتمد على القواعد النقدية أو المنطقية بسبب تماهيه مع النص إلى الحد الذي يغيب فيه عن شعوره لحظة الإنشاد أو الشرح، والشاعر أدرى بالحياة من الناقد، فالشاعر يأخذ خبرته من الحياة والناقد يضيع خبرته في النقد، ودليل ذلك هوميروس الذي تجلوه كتابة الإلياذة خبيراً بالطب والصيد وقيادة الجيش وعواطف العشاق ومشاعر القتلة بينا يكون المنشد والناقد مفتقداً لمثل هذه الخبرات المهمة. وكانت نظرة أفلاطون للمحاكاة عهداً نقدياً جديداً في حياة اليونان بعد أن مهد لهذا العهد سقراط الذي نظر إلى المحاكاة بشكل مختلف فأفلاطون يميز الحقيقة عن صورتها والجوهر عن العرض، إذ الوجود جوهر والمحاكاة عرض وانعكاس له، فهي (المحاكاة) لا تغني عنه ولا تحل محله، لأن عالم المثل عصي على عالم الحواس والمشاعر. والمحاكون إزاء المثل يشبهون أناساً يجلسون في سرداب وظهورهم باتجاه فتحة ضيقة منه وثمة نار مشبوبة، فهم يرون أشباحهم على الحائط وهي تتحرك بالانعكاس أي أنهم يرون أشباحهم المنعكسة عن المثال ولا يرون المثال!! وهكذا يكون الشاعر (أو الفنان) مسهماً في التضليل حين يبعد الجوهر عن العرض، فإذا وصف الشاعر امرأة جميلة واقفة أمامه فإن وصفه لها بمثابة مرحلة ثالثة من الوجود؛ ثمة أولاً فكرة شكل المرأة كما أرادها الله وثانياً المرأة المجسدة (كسر السين) لتلك الفكرة وثمة وصف الشاعر، فالوصف لا يحاكي الفكرة ولا تجسيدها وإنما يكون وصف الشاعر مثابة لمحاكاة المحاكاة! إذن الشاعر والفنان ليسا خالقين وإنما هما مقلدان!! وثمة مثال آخر موضح لفكرة أفلاطون عن المحاكاة.. الكرسي يمتلك صورة عند الله وصورة عند النجار والصورة الثالثة عند الشاعر! وهكذا يكون الشاعر عند أفلاطون أقل مرتبة من الصانع (النجار) وذلك ما يفسر استغناء جمهورية أفلاطون عن الشاعر والفنان .
بواكير النقد الأدبي العربي:-
مر بنا مطلع هذا المبحث عثور المنقبين في وادي الرافدين على نسخ مختلفة لملاحم (حينما في العلى) و (جلجامش) و(تموز) ولاحظ المنقبون الاختلاف الواضح لنسخ كل ملحمة من هذه الملاحم مما عزز الرأي القائل أن الشاعر أو الناسخ كان يجري التعديلات على النص الأصلي طمعاً في إرضاء ذائقة الجمهور وتسويق تلك النسخ، وهذه التعديلات لابد أن تكون قائمة على عدد من القواعد النقدية مهما قللنا من وعيها ونضجها والبابليون عرب هاجروا الجزيرة بعد الجفاف الذي داهم الجزيرة العربية وطابت لهم الإقامة في العراق حيث الماء والخضرة والاستقرار. وقد ضاعت النصوص الشعرية والنقدية التي تمتد من القرن 25ق.م حتى القرنين السابقين للهجرة النبوية الشريفة ومثل هذا الضياع العجيب خسارة فادحة للمشتغلين بالأدب العربي ونقده ومازال الأمل معقوداً على التنقيبات الهميمة في شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. لكن العينات التي بين أيدينا وهي لن تتجاوز القرنين السابقين على الهجرة يمكن أن تكون لدى الباحث فكرة مناسبة عن طبائع النقد الجاهلي وأصوله!! فقد وجد مبدع النص الأدبي القبسلامي عدداً من خيارات كتابة النص مثل الطين المشوي ورقّ الغزال وخشب الرحل والعظام المصقولة والقماش وعسب النخل…الخ؛ وكانت السكين أداة المحو لديه في حالات التحكيك (تعديل النص)، ألم ينقل عن المزني زهير بن أبي سُلمى: خير الشعر الحولي المحكك؟! ألم يقسم الجاهليون أدبهم إلى شعر ونثر ثم ميزوا نمطين من الشعر: مطبوع ومصنوع كما ميزوا نمطين من النثر: فني وسوقي!! وكانت هذه التقسيمات إشارة نابهة إلى الوعي المستجد في تقويم الأدب وتقسيمه وترسيم حدوده وبما يعزز الاتجاه النقدي عهد ذاك.
وشهد النقد الأدبي مرحلة نقدية متطورة وهي المرحلة التي اتخذت من الصورة الفنية معياراً نقدياً، المعيار الذي اعتمده عدد من النقاد الجاهليين في يثرب ومكة وعكاظ وذي مجنة وعدن أبين والحيرة.. جاء في طليعتهم النابغة الذبياني وأم جندب . وسنتلبث عند هذا البواكير في الفصل الرابع (المبحث الثاني) الخاص بالنـزعات الأدبية العربية وبسؤال النظرية النقدية العربية.
* دلالات المصطلح:
يحاول هذا المبحث التلبث عند عددٍ من الصيغ التي تتصل بكتابنا هذا من نحو مصطلح
-أدب-أدبية-شعرية-نقد-حديث-منهج-تماه-انزياح-تراسل-صورة-...الخ. ومن ثم معرفة مكونات الأديب.
المصطلح: كلمة والكلمة حاصل جمع عدد من الحروف تؤدي معنى أولا تؤدي! وهي أيضاً طاقة لا تفنى ولا تستحدث ويتعين على المتصرف بها معرفة طبائعها وأصولها وفروعها. فقد تنسحب كلمة إلى العتمة وتنعم أخرى بالضوء وفق قانون الاستعمال والإهمال، لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويضمر بيد أنه لايموت وإنما يرقّن حين يدب الانحلال والتشرذم في جسده! إن للكلمة ثلاث دلالات يمكن استنباطها من جهة استقراء تاريخ مسيرتها أو مسيرة تاريخها، فالدلالة الأولى تعتمد مرجعية اللغة مظنة لها وتسمى الدلالة اللغوية، والدلالة الأخرى مظنتها مرجعية وضعية اتفق المشتغلون بها عليها!! وتظل الدلالة الثالثة الأخيرة مقترنة برؤية الباحث الخاصة وطبيعة شغله ومنهجه وهمومه وتسمى الدلالة التأسيسية، قارن الدلالات الثلاث:
1- دلالة لغوية (معجمية قاموسية). 2- دلالة اصطلاحية(تواضعية اجتماعية). 3- دلالة تأسيسية (ذاتية تتصل بقناعة الباحث ومنهجه).
إن الجدل بالعلة والمعلول قائم بين هذه الدلالات، إذ لا يمكن لقنوات التواصل بين هذه الدلالات أن تنقطع؛ ثمة تأويل دائم وتوجيه دائب يحيلان على المعاني المشتركة بين الدلالات وإن بدا الأمر للوهلة الأولى مختلفاً.. هاكم أمثال معززة تتمحور حول (أسلم-كفر-عقل).
1- أسلم ç لغــة ç ذل وخضع.
ç اصطلاحاً ç صار مسلماً.
ç تأسيسـاً ç أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
2- كفر ç لغــة ç ستر وغطّى وحرث
ç اصطلاحاً ç لم يؤمن بالوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو بثلاثتها.
ç تأسيساً ç ضل السبيل القويم.
3- عقل ç لغــة ç شد الشيء بالحبل.
ç اصطلاحاً ç أدرك المقصود..
ç تأسيساً ç تجنب الهدر في التفكير والطاقة والزمن.
الأدب والأدبية والشعرية: يمثل الأدب في حاضنة اللغة آفاقاً شاسعة ويتوفّر على دلالات كثيرة العدد والوجوه، أهمها الرياضة والطعام والاعتياد والمعرفة العامة والمروءة والتعليم والأعراف والمجازاة . وإذا كانت مفردة (أدب) متقلبة في حاضنة اللغة فهي كذلك في الاصطلاح!! ويبدو الاختلاف جلياً حتى الآن على دلالاتها ووظائفها، إذ تضمنت علوم الأدب عند أجدادنا اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء! ولم يختلف الأمر كثيراً عند الخلف، فما زال الاشتباك متصلاً حتى الآن بين علوم اللغة والدين والآداب، وهذه أقسام اللغة العربية في كليات الآداب والتربية واللغات في الوطن العربي معنية بمفردات هذه العلوم، بل أضيف إليها تعلّم لغة غربية أو شرقية فضلاً عن درس الفلسفة، وأي غضاضة في الأمر؟ فالأديب معني أكثر من سواه بالجانب المعرفي وهو يخدم توجهه الأدبي والابستمولوجي ويعمّق تجربته ويصقل موهبته، وتظل هذه العلوم علوماً مساعدة وليست أدباً بأي تسويغ!! والأدب الخالص هو المعاني الجميلة المؤثرة في عواطف المتلقي وذائقته مصاغة بأسلوب متميز بجاذبيته ورقته؛ وقولنا المعاني الجميلة لا ينصرف إلى الفهم السائد للجمال، فقد يجد المتلقي جمالاً في النص الأدبي، وهو يتحدث عن الدمار في هيروشيما وناكازاكي أو مذبحة قانا!! والجمال متأت من رفض القبح والقتل بتصويرهما فنياً وتسليط الأضواء الكاشفة عليهما؛ متأت من تغنّي النص بقيم الإنسان العصي على الاتّساخ والاستسلام!! المعاني الجميلة ليست وفقاً على تصوير الفتاة الجذابة والبحر الغامض والفرح العابر، بل هو (الجمال) كامن في سويداء الأشياء والنفوس الجميلة تعرف كيف تتعامل مع الجمالين: الظاهر والباطن قارن مقولة عمرو بن معديكرب:
فاختر وإن أرديت بُرداًومناقبٌ أورثن مجداً ليس الجمال بمئزرٍ إن الجمال معادنٌ
ومقولة إيليا أبو ماضي:
لا يرى في الحياة شيئاً جميلا والذي نفسه بغير جمال
إذن: الجمال الأدبي قد يخرج من بؤرة الشيء إلى طريقة النظر إليه وأسلوب تناوله والتعامل معه!! جمال الأسلوب ليس في موضوعه أو تنميقه حسب؛ وإنما هو متجلّ في الابتكار والجدة وصدق التجربة وعمق المكابدة بما يعزز حضور النص في الوجدان ويعمق حب الحياة ويعضد قيمها النبيلة المغيبة ويجذر الإيمان بالله، مبدع السماوات والأرض ويجنبنا العَمَه والتطرف والانغلاق.
*الأدبية: مصطلح جديد وفق حدوده التي وصلتنا، ويعني الصفة التي يكتسبها النص المتحول (كسر الواو المشددة) من حالة السكون واللا أدب إلى الأدب (لأن الأدبية إذا توافرت في نص ما اغتدى أدبياً) .
*الشعرية: هي بؤرة الجمال في النص أو المسمع أو الملمس فالشعرية هي (السحر الحلال) الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا وبين النص حتى كأننا ونحن نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه؛ وكل شعر محروم من الشعرية افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت قشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك، والمهم جداً في هذا الميدان هو أن الشعرية غير مقصورة على ظاهرة واحدة أو سمة واحدة؛ وإنما هي كل الظواهر ومزاج السمات. وعليه فالشعرية ليست قرينة الشعر حسب، فربما امتدت إلى اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية وعروض الأزياء وهندسة العمارة ونبرة الصوت وملامح الوجه وحركة اليد وطيبة القلب!! إنها بؤرة الجمال في الموضوع.. رب شعر بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك أو أي قصيدة حذقت النظم ولم تحذق الجمال!! قارن قول ابن جحدر:
شمرجلة خلقها سيظمبها من وحي الجن زيزيم!! حلفت بما أرقلت حوله وما شبرقت من تنوفية
ورب شعرية بلا شعر.. مثل شمعة وسط ظلام دامس وموجة وسط بحر ساكن وقطرة طل على تويج زهرة…الخ .
النقد: تتوفر مادة (نقد) في المعجمات اللغوية على معانِ مؤتلفة مرة، مختلفة أخرى وللدارس أن يميز ميزانين لهذه المادة: الأول يعتمد نصب القاف في (نقد) والآخر يعتمد كسرها؛ ولكل ميزان إحالاته الدلالية..
أ- نَقَد (فتح القاف) ç نقد العينة اختبرها وميز جيدها من رديئها، ونقد الطائر الفخ توجس خيفة منه فاختبره حذراً؛ ونقد الصيرفي الدرهم نقداً وتنقاداً نقرها؛ ووضعها بين السبابة والإبهام ليمتحن الأصيل والزائف والجيد والرديء؛ ونقدت الأفعى زيداً لدغته؛ ونقد عمرو زيداً اختلس النظر نحوه حتى لا يفطن إليه؛ ونقد فلان الدراهم نقداً وتنقاداً أعطاها للبائع معجلاً؛ فالنقد في البيع خلاف النسيئة وانتقد بابها نصر.
ب- نَقِد: (كسر القاف) ç نقد الطعام نقداً وقع فيه الفساد؛ ونقد الضرس أو الحافر تآكل وتكسر؛ ونقد الجذع أكلته الأرضة فهو جذع نقد (كسر القاف) ونقد (فتحها)! ونقد الحافر تقشر، والمعاني (أ.ب) تكوّن فكرة عن دلالات هذه المادة؛ فإذا تناقد القوم تناقشوا والحصيلة هي حالتان: حالة المنقود أن يعرض على الناقد؛ وحالة الناقد أن يتفحص المنقود! ولابد والحال هذه أن يكون المنقود على صورتين: الأولى صحيحة والأخرى عليلة. وللمتفحّص أن يلاحظ أيّ الصورتين ميّزت المنقود؟ ولم ترد نقد في القرآن الكريم بأي من دلالاتها لكنها وردت في الشعر الجاهلي كثيراً وفق مستوياتها اللغوية، قال أعشى بكر:
فلا تحبسنا بتنقادها دراهمنا كلُّها جيدٌ
وقال عبدمناف بن ربع الهذلي:
لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدامن بطن حلية لا رطباً ولا نقداضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا ماذا يغير ابنتّيْ ربْع عويلهُماكلتاهما أبطنت أحشاءها قصباًإذا تأوّبَ نوحٌ قامتا معه
*والنقد في الاصطلاح ç يرمي إلى ملاحظة النص وامتحانه، بما يتهيأ للناقد من خبرة وذكاء لمعرفة قيمته؛ وما إذا كان مبتكراً أو متأثراً بنص آخر؛ وكان النقد الأدبي مطلع وهلته الأولى ميالاً إلى التعميم لأنه ثمرة حضارة الشعر وقتذاك، ولم يحصل النقد على مصطلحه (الواضح) إلا في وقت متأخر نسبياً وكان الناقد الجاهلي مثل زعيم القبيلة يوازن بين المعاني والألفاظ والصور بخبرته الخاصة وبوهمه أنه يمتلك المعرفة والحقيقة وحده! وربما احتكم إلى أصحاب الخبرة لينصحوه أو احتكم إلى ذوقه الخاص أو هواه أو ولائه!! فالناقد زعيم على نحو ما أو حاكم، وكان نابغة ذبيان ممسكاً بزمام الشعراء، يقول رأيه فيهم فيرضون وأطلق الجاهليون عليه (رأس حكومة الشعر) فكانت تضرب له خيمة من الجلد الأحمر على مسطبة رملية محددة بالحجارة المرصوصة بالقار تجعله في مشهد يراه فيه الجمهور الواسع دون عناء!!
ونقدنا الحديث قائم على أحد المنهجين: المعياري أوالوصفي..
*النقد المعياري ç وهو النقد التقليدي الذي يخول الناقد محاكمة النص الأدبي وإصدار الحكم له أو عليه، والمبدع لا يمتلك إلا القبول بأبوّة الناقد، والقارئ لا يفكر ولا يجتهد لأن ثمة ناقداً يفكر نيابةً عنه ويجتهد بدلاً منه!! ولعلنا نتذكر المقولات النقدية القديمة من نحو أشعر بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأمدح بيت وأخنث بيت.. كما نتذكر: الشعر المصنوع والشعر المطبوع وشعر الفحول وشعر الطبقة!! وقد أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن هذه الأحكام لم تكن قائمة على الاستقراء والموضوعية!!
*النقد الوصفيç يحاول هذا النقد التخفيف من سلطة الناقد الحاكم بأمره، حتى اقترح على عملية النقد اسم (قراءة النص) واعتد القارئ (غير الناقد) ناقداً لأنه يعيد إنتاج النص في متخيله. هذا النقد ظهر في الربع الأول من القرن العشرين وقد اهتم ومازال ببنية النص وجعلها اثنتين الأولى الشكل والأخرى المعنى وإن جعل المعنى تبعاً للشكل وكان هاجس هذا النقد ومازال هو نقل النقد من مرحلة الانطباع إلى مرحلة العلم.. ثمة آليات اعتمد عليها الناقد الوصفي مثل البنية والحقل والمستوى والانتظام والتآلف والتخالف..الخ فالناقد يشرّح النص ويصف تقنياته بطريقة حاذقة تترك للقارئ سانحة الاجتهاد في تلقي النص أو الحكم عليه.
*النقد المزدوج ç يحاول هذا الكيف من النقد استثمار مزايا المنهجين المعياري والوصفي وإقصاء فكرة البعد الواحد عن النقد. وقد أثبتت التجارب النقدية الرائدة أن هذا النقد المزدوج قمين بملامسة شغاف النص وابتكارات المنتج أو إخفاقاته وتلبية حاجات المتلقي وصولاً إلى الارتقاء بعملية التوصيل مراقي الجمال وتطويرها باتجاه فكرة الفريق المتألف من الأديب وجمهوره وناقده.. وثمة الكثير من المنطلقات النقدية الواقعة في نقطة التقاطع بين الخطين المتصالبين..