العولمة وموقف الاسلام منها ..الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين… أما بعد:
فإن الدراسات المتعلقة بالمستقبل، أصبحت تشغل الجامعات ومراكز البحث في العالم أكثر من أي وقت مضى. ولم يعد القائمون على التخطيط للتنمية والاستثمار يقفون عند دراسة التاريخ في الماضي والتفكر في الحاضر، ولكنهم إضافة إلى هذا يستشرفون المستقبل باحثين عن بدائل احتمالاته وإعداد العدة للتعامل معها. ونتيجة لهذا، فإنهم يحسنون استثمار الزمن أولاً، كما يحسنون استثمار الطاقات البشرية والمادية، على السواء.
ومن أهم ما يطل على الساحة العالمية، ويشغل بال علماء الاقتصاد والاجتماع والتربية والسياسة في الوقت الحاضر ما يشار إليه ب "العولمة". وهي توجه جديد يبدو أنه سينضمّ إلى جملة المؤثرات المعاصرة على مستقبل العالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة.
لذلك، لا بد أن يكون الحديث عن "موقف الإسلام من العولمة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن". ويقتضي المنهاج العلمي أن أبدأ بتحديد مفهوم "العولمة"، وهو مفهوم لم يتفق عليه بعد بين العلماء والباحثين. ومن ثم فإنني سوف أجتهد في تحديد هذا المفهوم، مشيراً إلى أن اجتهادات المثقفين تختلف بالنسبة للعولمة المعاصرة.
فنجد فريقاً يراها - بما امتطت من تقانة متقدمة وإعلام غلاّب - تهدد هويتنا، ومن ثم ينبغي أن توصد الأبواب والنوافذ دونها، وأن نرفضها كلا وتفصيلاً.
ويرى فريق آخر أنها بشير تقدم ورقي. وكيف لا وهي آتية من مجتمعات متقدمة، وتمتطي أحدث ما وصل إليه العصر من أساليب الاتصال وتقانته، ومن ثم ينبغي أن نفتح لها الأبواب والنوافذ، وأن نغتنم الفرصة بالأخذ بمعطياتها لإفادة الأمة الإسلامية من ثمراتها.
وهناك فريق ثالث يرى أن نأخذ منها المفيد ونتقي شر ما تأتي به من مثالب. وأمام هذه الرؤى المختلفة والمتعارضة - أحياناً - نرى أهمية فتح حوار عن العولمة، لعلنا نصل فيها إلى كلمة سواء.
أولاً: مفهوم العولمة:
سوف نعرض هنا مفهومين للعولمة:
الأول: أشير إليه بمفهوم "العولمة كما ينبغي أن تكون" وهو تصور للعولمة التي يتكافأ فيها الشمال مع الجنوب.
الثاني: أسميه "المفهوم المعاصر للعولمة" وسوف أحاول استقراءه من واقع التطبيق الفعلي المعاصر للعولمة.
أ- مفهوم العولمة كما ينبغي أن يكون:
يمكن فهم "العولمة" - على وجه العموم - من الناحية الاصطلاحية بأنها حركة تهدف إلى تعميم تطبيق أمر ما على العالم كله.
فمثلاً عبارة "عولمة تنقية البيئة" تعني جعل البيئة في جميع أنحاء العالم، بيئة نظيفة ومناسبة، لأن تحيا الكائنات الحية فيها حياة صحية. وتعني عبارة "عولمة الاقتصاد" جعل الاقتصاد في جميع أنحاء العالم يتبع النظام نفسه، ويطبق الأساليب ذاتها، ويستخدم آليات بعينها، لصالح جميع الشعوب دون تمايز بينها. وتعني عبارة "عولمة السلام" أن تتعاون جميع الدول لحفظ السلام في العالم، كما تتعاون على قتال المعتدين. وهذا المفهوم يستتبع استفساراً مهما عن إجراءات الأخذ بهذه العولمة. فهل تتبنى مختلف دول العالم هذه "العولمة" اختيارًا، بمعنى أنها تستشار في صياغة أسسها، وتخطيط أساليبها، وتحديد آلياتها، وأنها تتمتع بالحرية المطلقة في قبولها أو رفضها في النهاية؟ إذا كانت إجابة الأسئلة السابقة "نعم" فإن العولمة حين تسود جميع دول العالم، فإنّ هذا يكون بناء على اختيار حر وإرادة مستقلة منها. وتكون العولمة بذلك ظاهرة صحية.
ويمكن تطوير مفهومها ليكون: حركة قامت على اختيار جميع دول العالم اختياراً حراً، لتعميم تطبيق أمر ما عليها جميعاً، دون تمايز بينها.
وحيث إن العلم الحديث والتقانة المتقدمة هما مطية العولمة، ومع مراعاة التعددية الثقافية والخصوصية الدينية والحضارية للشعوب، وسعياً إلى تحقيق الأمن والرفاه والسلام للجميع، يمكن أن ننتهي إلى تحديد مفهوم "العولمة كما ينبغي أن تكون" على النحو التالي:
توظيف التقدم العلمي التقاني المعاصر، لتحقيق الأمن والسلام العالميين، والسعي لتحقيق الرفاه لجميع دول العالم، وبناء علاقات هذه الدول على أساس التعامل مع التعددية الثقافية، والخصوصية الدينية والحضارية.
ب- مفهوم العولمة المعاصرة:
باستقراء التاريخ يتبين أن العولمة المعاصرة ليست جديدة، ولا هي وليدة وقتنا الحاضر. فهي ظاهرة نشأت مع ظهور الإمبراطوريات في القرون الماضية. ففي السابق حاولت الإمبراطوريات -مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية- أن تصبغ الشعوب التي تبسط نفوذها عليها بثقافتها، وتسعى لترسيخ هذه الثقافة في مختلف جوانب حياة هذه الشعوب. وقد عملت هذه الإمبراطوريات لتوجيه قيم هذه الشعوب وتقاليدها وحضارتها، وفق أنماط الحياة التي تريدها. فكانت هذه الخطوة نحو العولمة.
وقد لبست هذه العولمة عدة أثواب أخرى، منها الثوب العسكري ومنها الاستعمار، ومنها استنزاف الموارد، فقد قام الشمال باحتلال بلاد الجنوب متعللاً بشتى الأسباب، وعن طريق هذا الاحتلال تحكم في مقدرات البلاد واستنزاف مواردها، وغرس ثقافته فيها، وكانت هذه خطوة أخرى نحو العولمة. واليوم، وقد تفوق الشمال على الجنوب بما حاز من علم وتقانة، وبما امتلك من وسائل الدمار الشامل، أصبح الشمال مصدر الإنتاج في مختلف المجالات، وأصبح الجنوب مستهلكاً لهذا الإنتاج. ولكي يقنن الشمال هذه العلاقة، أطلق نداءه بالعولمة وأخذ بأسباب تحقيقها في مختلف الميادين. وينظر البعض إلى العولمة المعاصرة، بأنها:
آليات اقتصادية وأسواق عالمية، وجدت إطارها المقنن في اتفاقية التجارة العالمية، التي تضع الاقتصاد أمام الإنسان، وتهدر سيادة الدولة ومصلحة الفرد لحساب السيطرة الاقتصادية، ومن ثم فلابد من أن تتصادم مع التراث الثقافي لمختلف الشعوب، نظرا إلى أنها تنزع إلى صياغة ثقافة كونية تهدد الخصوصية الثقافية للمجتمعات.
وينظر آخرون إلى العولمة المعاصرة بأنها:
هيمنة المفهوم الغربي، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، على العالم. ومن ثم فإنها تفرض على الآخرين - ليس فقط ما يتعلق بتخطيط التنمية، وإنشاء البنى التحتية والخدمات الأساسية - ولكن تتعدى هذا إلى البنى الثقافية والحضارية.
ومن هنا يمكن أن يحدد مفهوم العولمة المعاصرة بأنه:
سعي الشمال عن طريق تفوقه العلمي والتقني للسيطرة على الجنوب تربوياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بدعوى مساعدته على التنمية الشاملة وتحقيق العدالة في الاستثمار والرفاه للجميع.
وعلى الرغم من أن هذا التعريف يوضح النظرة الاستغلالية للشمال، إلا أن هناك أساليب كثيرة - لا يتسع المجال لذكرها - يمكن أن يستفيد بها الجنوب من العولمة. فعلى سبيل المثال يمكنه الاستفادة من معطيات التقدم العلمي التقاني الذي تستخدمه العولمة، في توسيع خطواته نحو التقدم. كما يمكنه أن يستنهض قدراته الذاتية، وأن تتضامن مجتمعاته في مواجهة تحدياتها، وفي توجيه القرارات الدولية الوجهة السليمة.
ثانياً: النظام السياسي بين الشورى والديمقراطية:
إن هدف العولمة المعاصرة، هو التمكين للنظام الديمقراطي على النمط الغربي، من حيث الأخذ بالتعددية، وإعطاء فرص لحرية التعبير، وإبداء الرأي من خلال قنواته. والنظام الديمقراطي كما يطبقه دعاة العولمة عليه مآخذ كثيرة، منها أنه في غالب الأحوال لا يمكن من الحكم إلا لفئة معينة، ويتحكم في الانتخابات فيه: رأس المال، والقبلية والنزعات العرقية والعنصرية والنفوذ، وتؤثر في مصداقيته الأمية والدعم الإعلامي.
ولإضفاء الشرعية على إقحام الديمقراطية الغربية في حياة الشعوب الأخرى، ادعى الغرب أن عدم تطبيقها فيه جور على حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات. ولا شك أن "حقوق الإنسان" يمكن أن تقرب بين دول العالم، إذا طبقت بموضوعية وتجرد. ولكن حقوق الإنسان - كما يطبقها دعاة العولمة - لم تراع الخصوصية الدينية والثقافية والأعراف الصحيحة للمجتمعات، بل أصبحت وسيلة للتحيز المقيت. فعلى سبيل المثال، حقوق الإنسان - كما تطبق في العولمة - لا تساوي بين حقوق الإنسان الفلسطيني أو البوسني أو الألباني، وحقوق الإنسان اليهودي أو الصربي، كما تسمح في ظل العولمة بالتحيز ضد يهود الشرق في إسرائيل، ولكنها لا تسمح بمقاومة المنحرفين عن نظام المجتمع في الكثير من بلدان العالم.
وبالنسبة لنا نحن المسلمين، فإن لدينا الأفضل والأنسب لحياة البشر جميعاً، وهو نظام الإسلام الذي يقوم الحكم فيه على الشورى والعدل وتطبيق شرع الله. والشورى وسيلة للوصول إلى الرأي الأصوب لأنه رأي الجماعة. والجماعة هنا لا يقصد بها الأغلبية المطلقة، كما هو الحال في النظام الديمقراطي الذي يعتمد على الأغلبية العددية وحدها، ولكن المقصود بالجماعة هنا الجماعة المؤهلة للاستشارة. ومن أهم ما ينبغي أن يتوافر في هؤلاء أن يكونوا ممن يتقون الله في القول والعمل ولا يخشون أحداً إلا إياه، ويعملون على تحقيق منهاجه في الأرض، وأن يكونوا ممن لديهم العلم والخبرة الكافية، فيما يستشارون فيه.
وبناءًا عليه فإن المستشار في الإسلام يصدق الحاكم القول. أما عن مدى صواب ما يشير به، فعلمه وخبرته يؤهلانه - بعد توفيق الله - للوصول إلى الصواب. ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، ولكنه يتحرى الصدق والصواب في كل حال. وجماعة الشورى يذكر بعضهم بعضا، ويتناصحون ويتحاورون ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة فيما استشكل عليهم من أمور. قال الله سبحانه وتعالى عن المسلمين: وأمرهم شورى بينهم (الشورى 38)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وشاورهم في الأمر (آل عمران، 159).
وفي التاريخ الإسلامي صور من استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين للشورى في اتخاذ القرارات، كما في حفر الخندق في غزوة الخندق، وفي خروج المسلمين في غزوة بدر لمقابلة الكفار، وفي معاملة أسرى بدر.
ويعتمد العدل في الإسلام على المنهاج الشرعي وعلى تطبيق الحدود. أما المنهاج فهو شريعة الله… وقد قامت الشريعة على العدل مع النفس،وداخل الأسرة وفي ساحة القضاء، وعلى مستوى الرعية، وحتى مع المخالفين في العقيدة، ومع من نحبهم ومن نكرههم. قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (المائدة ،
وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون > (النحل،90). وقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل > (النساء، 58).
وتطبيق الحدود من الدعائم المهمة لتحقيق العدل في الإسلام، ومن أهم أسس استقرار الحياة في المجتمع المسلم. قال تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (البقرة، 179). وقال تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له (المائدة، 45).
وبيّن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قواعد للعدل والمساواة ستظل نبراساً يستضيء به طلاب العدل ومريدوه على مر الأزمان. وذلك حين جاءه من يشفع في حد من حدود الله، فأقسم بالله أن لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها. وقال عليه الصلاة والسلام: «كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (متفق عليه)
وقد ضرب الحكام المسلمون أمثلة للعدل مع النفس ومع أبناء الرعية المسلمين وغير المسلمين. فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكم لنصراني من مصر بضرب ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قصاصا منه. وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقاضي نصرانياً أخذ درعه - وهو أمير المؤمنين - فيحكم القاضي للنصراني بالدرع، لأن أمير المؤمنين ليس عنده بينة.
وولي الأمر الذي يحكم بشرع الله المؤسس على الشورى والعدل، له واجب الطاعة على المسلمين. قال تعالى: يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (النساء، 59).
ويبين أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه قواعد العلاقة بين الحاكم المسلم والمحكومين في كلمات بالغة الدلالة بقوله: « إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ****، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم». وقال عن ذلك الإمام مالك: «لا يكون أحد إمامًا إلا على هذا الشرط».
وهكذا كانت مبادرة الرعية إلى إبداء النصح واجبة عليهم بمقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبادرة ولي الأمر إلى طلب المشورة من أهلها واجبة عليه، للاستدلال على حكم الله ورسوله من النصوص الشرعية المتعددة، وللاجتهاد فيما سكتت عنه النصوص.
ومع أن التطبيق الديمقراطي -الذي تبشر به العولمة - يستند كما نعلم إلى دساتير وقوانين وضعية، فإن من أهم سمات الشورى في الإسلام أنها تنبع من عقيدة الإسلام وشريعته. وهذا يعني أن الشورى لا يمكن أن يتغلب فيها حزب على حزب أو جماعة على جماعة لمجرد الكثرة العددية، ولكن يكون التقويم المبدئي للرأي من حيث التزامه بالعقيدة وانطلاقة من الشريعة، ثم يأتي بعد هذا الأغلبية العددية.
أما في الديمقراطية، فإن مرجعية الحرية والعدالة فيها تتأثر بعوامل سياسية وحزبية واقتصادية وإعلامية.
والشورى في الإسلام تتيح للجميع الحوار الحر ومناقشة الحجج والمبررات التي توضح أن قرارا ما أكثر التزاماً بمبادئ الحق والعدل، كما تبين مدى توافقه مع مقاصد الشريعة وأصولها ومبادئها. أما في الديمقراطية فإن الفرد ليس ملزماً بإبداء الرأي، وقد يتعمد الغياب عن التصويت أو حجب صوته لأن هذا يحقق مصلحة انتمائه السياسي أو مصلحة فردية.
ومحور الفكر السياسي الذي تبشر به العولمة هو تحكيم الأغلبية العددية، أي عدد الأفراد الذين ينحازون إلى رأي معين. أما الشورى الإسلامية فإنها تجعل الأولوية للعقل والفكر وليس للعدد وحده. فالأغلبية العددية يمكن الحصول عليها لأسباب كثيرة عارية من الشفافية كما سبق أن بيناه، ونشاهد أمثلة لهذه كثيرة في داخل العالم الإسلامي وفي خارجه.
ومع هذا كله وعلى الرغم من مزايا نظام الإسلام، فإن العولمة المعاصرة لا ترضى به بديلاً عن الديمقراطية، لأنهم يهدفون إلى صبغ العالم كله بصبغة معينة هم مخترعوها، وهم الذين يدعمونها لتحقيق أهدافهم.
ثالثاً: السلام بين الإسلام والعولمة :
إن الدعوة إلى السلام في العالم هي دعوة الإسلام، قبل أن يوجد نظام العولمة، وقبل أن تلتزم دول العالم بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة سنة 1948م بعدم الاعتداء وبحل المنازعات بينها بالطرق السلمية، فقد أمر الله المسلمين أن يتجهوا إلى السلم إذا رأوا من أعدائهم ميلا إليه، ودعا إلى الاستجابة لدعوة السلام إذا صدقت نية الطرف الآخر في التوصل إليه، يقول تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله (الأنفال، 61) وينبه الله المؤمنين إلى الحذر من خديعة العدو: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (الأنفال، 62) فالإسلام بذاته دعوة للسلام، السلام داخل المجتمع الواحد، والسلام بين المجتمعات المتعددة والمختلفة الأعراق واللغات والثقافات والعقائد.
ولم يرد لفظ الحرب في القرآن الكريم مقرونا بالدعوة إليها أو تمجيدها، بل جاء ذكر الحرب بأوزارها حين تفرض على المسلمين: حتى تضع الحرب أوزارها (سورة محمد،4) وقال تعالى في وصف الخارجين على المجتمع والذين يروعون الناس بغير حق ويجترئون على أحكام الشرع بأنهم يحاربون الله ورسوله (المائدة، 33) وهكذا لم يجعل الإسلام الحرب - وهي ظاهرة اجتماعية قديمة في التاريخ - وسيلة لتحقيق الخير أو حتى النفع الحقيقي للإنسان، واستبدل الإسلام بالحرب مفهوماً أسمى وأرقى هو مفهوم الجهاد، وهو مفهوم يتسع لبذل الجهد في مقاومة كل شر وعدوان، بدءاً من شرور النفس وانتهاءً بدفع العدوان وطلب تحقيق العدل والإحسان على الأرض وعلى الناس والجهاد ليس حرباً يشنها المسلمون على غيرهم بدافع السيطرة ومد السلطان وإذلال الآخرين واكتساب المغانم، إن الجهاد في الإسلام له مفهوم ينفي العدوان وينكر التوسع والسيطرة للاستعلاء على الناس بالقوة، وهو لا يبيح للمسلم أن يعرض نفسه للهلاك أو يقصد إهلاك غيره إلا وفق قيود الشرع، التي تحدد أسباباً يكون فيها الجهاد ويكون فيها القتال مشروعاً، فالإسلام لا يعرف الحرب التي يكون الباعث عليها مجرد العدوان وطلب المغنم، والتي يحتكم فيها إلى القوة وحدها، وإنما يعرف القتال دفاعاً عن النفس وعن الدين وعن جماعة المسلمين إذا حيل بينهم وبين عبادة الله وحده والدعوة إليه.
إن مفهوم الجهاد في الإسلام يستلزم أن تكون الحرب مشروعة، ومشروعية الحرب لا تتأتى بحسب أحكام الشرع الإسلامي إلا في حالات محددة، ووفق ما يجيزه الشرع من إجراءات لإعلان الحرب، وتحديد مداها وأثرها وتقييده لشرورها.
إن الحرب قد تكون للدفاع عن النفس، يقول الله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة، 109) ولنقض المعاهدات ونكث العهود، والكيد للإسلام والمسلمين. يقول سبحانه وتعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (التوبة، 12) وإن فتنة المسلمين عن دينهم والسعي بالفساد بينهم وتهديد سلامة المجتمع والدولة الإسلامية مما يجيز القتال درءا للفتنة، يقول الله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (البقرة، 193).
ولم تخرج غزوات المسلمين والحروب التي خاضوها في العهد النبوي وعصر الخلفاء الراشدين عن هذه الحالات داخل شبه الجزيرة العربية أو خارجها: مع اليهود في داخل شبه الجزيرة أو الروم والفرس خارجها.
هذا هو مفهوم الجهاد في الإسلام، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الحرب بمعناها الواقعي قديماً وحديثاً، فمفهوم الجهاد يجعل السلام هو الحالة الدائمة والثابتة في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا يكون القتال إلا الاستثناء الذي يجب أن يتوفر سببه وحكمته.
ويوجب الله حتى في حالة الجهاد والحرب المشروعة، أن تكون الحرب معلنة، وليست غدراً بالآمنين والمسالمين، وأن يقلل من شرورها، لقد نهى عن قتال من لا يقاتلون من الشيوخ والعجزة والنساء والأطفال والرهبان المنقطعين للعبادة، وحرم الله صور القسوة والوحشية التي لا مبرر لها، مثل التخريب الشامل للعمران، وحرم أن تنتهك حرمة الآدمي حياً أو ميتاً، كالاعتداء على الجرحى أو الأسرى أو التمثيل بجثث الأعداء، كل ذلك شرع الله مراعاته من قبل المجاهدين، فكان بذلك ما نسميه "آداب القتال" أو قانون الحرب.
إن الجهاد في الإسلام وما يتبعه من قتال، لا يصح أن ينال المدنيين المسالمين، ولا يجوز أن يكون فيه دمار شامل للإنسان أو الأشياء النافعة للإنسان، وهكذا كان الحال في الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، مما لم تتوصل إلى بعضه المواثيق الدولية كمعاهدة جنيف، التي تحمي المدنيين من ويلات القتال، وتحدد حقوق الأسرى والمقاتلين والتي صدرت في عام 1949م.
يتبع