بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله r، وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التربية الحسنة وصلاح الذرية أمنية كل أب وأم، وقد اعتنى بها الإسلام عناية خاصة، وأصَّل لها أصولاً راسخة في المصدرين الأولين الكتاب والسنة، وكتب في نظرياتها الكُتّاب على اختلاف طبقاتهم واتجاهاتهم، وهذه الصفحات عبارة عن تجارب تربوية ناجحة – بإذن الله تعالى – مارسها بعض المربين، وأحببنا تسجيلها؛ لعل فيها ضياء يستنير بها المتطلعون إلى صلاح الأبناء والبنات؛ أملاً في أن يكونوا أعضاء نافعين لأنفسهم، ودينهم، وأمتهم الإسلامية.
ولقد حرصنا في عرضها على بساطة الأسلوب، والعرض القصصي الواقعي، فإن وُفِّقنا فمن الله – تعالى – وبتسديد منه، وإن كان غير ذلك فمن أنفسنا ولا تتعدى أن تكون اجتهادًا شخصيًا، نرجو ثوابها عند الله تعالى، ونسأله جل شأنه أن ينفع بها، وأن يجعلها في ميزان حسنات كل من ساهم في إخراجها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
التربية مصدرها ومتى تبدأ
كنوز القرآن والسنة أصول تربوية كبيرة الفائدة، عظيمة الأثر، وحين يكون الحديث عن الطفولة فإن هذه المرحلة كالبذرة الصغيرة، والنبتة الضعيفة، إذ أرادنا لها النمو والقوة والاشتداد فعلينا بمنبع الإسلام الصافي؛ لنربي أبناءنا على منهج كتاب الله ووفق سنة رسول الله r، ولنحرص على هذه التربية منذ نعومة أظفارهم، حيث مرحلة التنشئة.
فالأطفال كالنبتة الصغيرة تحتاج على رعاية تامة؛ من ماء، وهواء، وشمس حتى تكبر وتشتد، والأطفال بحاجة إلى متابعة توجيه، ما داموا في هذه المرحلة من العمر، حتى إذا اشتد عودهم، وصاروا كبارًا كانوا على خير بإذن الله تعالى، أما إذا نشؤوا مهملين فيصعب عند الكبر توجيههم وإصلاحهم.
نجد في وقتنا الحاضر كثيرًا من الأمهات يشتكين من أبنائهن، لعدم أداء صلاة الفجر في جماعة، بسبب عدم تعودهم عليها منذ الصغر.
تحكي إحدى الأخوات أن طفلها منذ أن كان في الصف الثالث، أو الرابع الابتدائي كان لا يترك الصلاة مع الجماعة في كل وقت، حتى صلاة الفجر، وكان في ليالي الشتاء الباردة يلبس الملابس الثقيلة، ويخرج مع أبيه إلى المسجد، وفي إحدى الليالي قال أحد جماعة المسجد لوالده: لا تخرج به في مثل هذا الوقت؛ لبرودة الجو، وعدم تحمل الطفل لها، ولكن الأب استمر على الذهاب بابنه إلى المسجد في كل الأوقات؛ لأنه ليس هناك فرق بين ذهابه إلى المسجد، وموعد المدرسة -أي: بين صلاة الفجر وموعد الدراسة – سوى ساعة واحدة تقريبًا, فلماذا نهتم بأمر الدنيا أكثر من الاهتمام بأمر الله والدار الآخرة؟ واستمر هذا الابن على المحافظة على الصلاة في المسجد، في كل وقت، وقد بلغ قرابة العشرين عامًا من عمره وهو مثال في المحافظة على الصلاة في جماعة حتى في الفجر، وغيره؛ لأن من شب على شيء شاب عليه.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يذكر عنه أنه يقول: كنا نعيش في بغداد وكان والدي قد توفي، وكنت أعيش مع أمي، فإذا كان قبل الفجر أيقظتني أمي، وسَخّنت لي الماء، ثم توضأت. وكان عمره آنذاك عشر سنين، يقول: «وجلسنا نصلي حتى يؤذن الفجر» - هو وأمه رحمهما الله – وعند الأذان تصحبه أمه إلى المسجد، وتنتظره حتى تنتهي الصلاة؛ لأن الأسواق حينئذ مظلمة، وقد تكون فيها السباع والهوام، ثم يعودان إلى البيت بعد أداء الصلاة، وعندما كبر أرسلته أمه لطلب العلم.
ويقول أحد العلماء: إن لأم الإمام أحمد بن حنبل من الأجر، مثل ما لابنها؛ لأنها هي التي دلته على الخير.
نعمة الذرية
إن نعمة الذرية نعمة جميلة، لا يُقَدِّر قيمتها إلا من فقدها، والنعمة تستحق الشكر للمنعم، ومن أجَلِّ مظاهر شكرها حسن تربيتها، ورعايتها الرعاية الشرعية الصحيحة، فكيف تكون هذه التربية وتلك الرعاية؟
هذا التساؤل هو ما سنحاول الإجابة عليه قدر المستطاع في هذه الكلمات – بإذن الله -، إن هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا، وزين بها بيوتنا، ثم أوكل إليها حق رعايتها، وإصلاحها، والعناية بها جديرة بالدراسة، والتخطيط، والمتابعة، قال رسول الله r: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» إلى أن قال: «والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده» الحديث متفق عليه.
فما هي تلك الرعاية
تبدأ الرعاية في الإسلام قبل عقد الزوجية، حيث أوصى الإسلام باختيار الزوجة الصالحة، لما لها من أثر في صلاح الذرية، فن حكمة البدء بصلاح الأم، وحسن اختيارها، وهذا هو صريح وصية الرسول عليه الصلاة والسلام - «فاظفر بذات الدين تربت يداك»، فالأم الصالحة مثل الأرض الصالحة للزراعة، ثم يأتي – بعد الزواج – التوجيه النبوي الكريم إلى ما يكون سببًا في صلاح الأبناء، قبل تكوينهم في أرحام أمهاتهم، حيث ورد قوله r: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره». والحديث متفق عليه.
فسبحان الله، ما أعظم اهتمام الإسلام بالأبناء حتى في هذه اللحظة.. تسمية ودعاء, وهذا دليل على بركة التسمية، وأهميتها، وأهمية الدعاء وفي ذلك اعتصام بذكر الله، وتبرك باسمه، واستشعار بأن الله تعالى هو الميسر، والمعين، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله سبحانه وتعالى يطرد الشياطين.
وأمر آخر مما يدل على عناية الإسلام بالرعاية الطبية للأبناء، هو الدعاء لهم، فدعاء الله سبحانه وتعالى هو نهج الأنبياء والصالحين في كل حال من أحوالهم، فهذا زكريا u يدعو الله سبحانه وتعالى قبل أن يرزق الذرية قال تعالى: }هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ{ فلننظر إلى قوله }ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً{ لأنه لا يريد أية ذرية، بل ذرية طيبة.
ويحدثنا القرآن الكريم أيضًا عن امرأة عمران – أم مريم عليهما السلام – ودعائها ربها حين الحمل وبعد الولادة يقول تعالى: }إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ{ [آل عمران: 35، 36].
الله أكبر, تدعو لابنتها ولذريتها، فهل لفت انتباهنا – نحن المربين – هذا الدعاء ودعونا به؟
كانت إحدى الأخوات حاملاً، وعند آلام الوضع تذكرت دعاء أم مريم لابنتها مريم عليها السلام، بعد ولادتها لها وتقول: لقد ألهمني الله أن أدعو بهذا الدعاء بعد ولادتي طفلتي: «اللهم إني أعذيها بك وذريتها من الشيطان الرجيم».
تقول هذه الأخت: لقد رأيت على هذه البنت صفة الهدوء، والراحة في تربيتها، ما لم أجده فيمن قبلها من أخواتها، ولله الحمد، ونسأل الله أن يديم عليها ويجعلها قرة عين لوالديها، وذخرًا للإسلام والمسلمين.
عناية السلف بتربية الطفل :
يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء يسأله: كيف تكون التربية؟ فسأله العالم كم عمر ابنك الآن؟ فقال أربعة أشهر، فقال العالم لقد فاتتك التربية؛ لأن التربية يُبدأ بها منذ اختيار الزوجة، ومن هنا نعلم أن التربية لا تبدأ مع ولادة الطفل، أو بعد مضي سنوات من عمره الأول، بل نلاحظ هنا أن التربية تسبق الإقدام على الزواج، وذلك بالتروي في اختيار الزوجة الصالحة؛ لأنها هي المدرسة الأولى للطفل في حمله، وبعد ولادته، والأم هي الفاعل الأساسي في العملية التربوية، وهي المربي الأسبق قبل الأب؛ وذلك لالتصاقها بالطفل، ولأن الطفل قطعة منها، ولأن عاطفة الأم أقوى من عاطفة الأب والأم المسلمة هي نواة البيت المسلم؛ لأنها تعيش مع الابن أكثر سنوات حياته أهميةً، وهي مرحلة ما قبل المدرسة التي تحدد شخصية الطفل، وهي مرحلة الأساس في حياته، وكلما دعمت بالرعاية والإشراف والتوجيه، كان ذلك أثبت للطفل أمام الهزات المستقبلية التي ستعترض الطفل في مستقبل أيامه.
وكلما أخذت التربية منا جهدًا أكبر أثمرت هذه التربية ثمرة أطيب، فمن يرد إنشاء بيت محكم فليتقن التأسيس؛ ليكون ذلك أقوى له وأشد صلابة في مواجهة دواعي السقوط والانهيار، وهكذا تجب العناية بتأسيس الأبناء.
وهنا إشارة إلى أن التربية الإسلامية، التي عليها الأساس القوي، هي تربية الروح، فتنمية فطرة الطفل السليمة على الخير، وربط صلتها بالله تعالى بالذكر والدعاء في كل حين، وفي كل عمل، وبيان نعمة الله على هذا الطفل في خلقه، ومأكله، ومشربه، ولبسه، ذلك مطلب أهم من العناية بالأكل، والشرب، واللباس، مجردة من استشعار فضل الله فيها، فهذه الحاجات الظاهرية من السهولة إصلاحها، ومتابعتها، وتحقيقها للطفل، إذن فالمهم الاعتراف والإقرار، والحمد والشكر للذي هيأها وأنعم بها علينا.
من ثمار التربية الحسنة
يذكر أن طفلة في السنة الخامسة الابتدائية، كانت تؤدي سنة الضحى قبل ذهابها إلى المدرسة، وفي اليوم الذي يضيق فيه الوقت، ولا تتمكن من أداء السنة في البيت قبل الخروج، تقول: أشعر بضيق ينتابني في المدرسة في ذلك اليوم عندما أتذكر أني خرجت قبل أداء هذه السنة.
إن الطفل في هذه السن كالورقة البيضاء، مستعد لأن يُكتب فيه أي شيء، من خير، أو شر، لذا يجب على المربين أن يهتموا كثيرًا بالتربية في هذه المرحلة، وينبغي الاهتمام أكثر من جانب الأمهات، فعليهن منح الطفل ما يحتاجه من حب وحنان، وهذا ضروري؛ لتعليم الطفل محبة الآخرين، والمحبة غريزة طبيعية في كل طفل، ولذا ينبغي صرفها في البداية إلى محبة الله سبحانه وتعالى، ثم إلى محبة رسوله r، ثم الوالدين، والأقربين، وعامة المسلمين.
فمثلاً إذا أهدى للطفل قطعة من الحلوى، أو لعبة، أو غيرها، فسنجد أن هذا الطفل يحب من أهدى له, فما بالكم إذا ذُكِّر الطفل بنعم الله عليه من المآكل، والمشارب، والملابس، والصحة والعافية بين فترة وأخرى؟ ولفت انتباهه إلى أن هذا من رزق الله، فبإذن الله تعالى ستنغرس في قلب هذا الطفل محبة الله سبحانه وتعالى.
دخل الأب يومًا إلى المنزل، وقد أحضر معه أنواعًا من الفاكهة، فجلست الطفلة ذات الأربع سنوات تنظر إلى هذه النعم، بينما الأم والأب منشغلان في حديث ما، فإذا بالطفلة تقطع حديثهما قائلة: أنا أحب ربي! وعندما سئلت لماذا؟ قالت: انظروا ماذا أعطانا، تشير إلى الفاكهة، فقد يغفل الوالدان والطفل يُذَكِّرهما بنعم الله عليهم.
التربية الروحية الايمانية للطفل
ينبغي لطفل الثالثة من العمر أن يرى أمه وأباه وهما يصليان، وينبغي أن يسمعهما يتلوان القرآن.
إن استماع الطفل للقرآن الكريم والأذكار اليومية، من والديه وإخوانه، وتكرار هذا السماع يغذي روحه، ويحيي قلبه كما يحيي المطر الأرض المجدبة، فإن سماع الطفل لوالديه، وهما يذكران الله تعالى ومشاهدته لهما في عبادتهما، لذلك أثر في أفعاله، وأقواله، ومن الأمثلة على ذلك القصة الآتية مع هذه الطفلة:
انتهت الأم من الوضوء، وإذا بطفلتها البالغة من العمر ثلاث سنوات، تغسل وجهها، ويديها مقتدية بأمها، وترفع أصبعها السبابة قائلة: لا إله إلا الله، فهذا يدل على أن الطفلة لاحظت من والديها أن هناك ذكرًا مخصصًا يقال بعد الوضوء.
وقصة أخرى
أدت إحدى الأمهات سنة الوضوء – في أحد الأيام – وقامت لإكمال عملها في المنزل وقد اعتادت طفلتها أن ترى والدتها بعد الصلاة تجلس في مصلاها حتى تنهي أذكار ما بعد الصلاة، ولكن الطفلة لاحظت على والدتها النهوض من المصلى بعد أداء السنة مباشرة، فقالت لها: لماذا قمت من مصلاك قبل أن تقولي: استغفر الله؟ هذا الموقف يدل على شدة مراقبة الأطفال لوالديهم.