الأحد يناير 23, 2011 7:51 pm
رسالة بيانات كاتب الموضوع
النموذج النبوي من خلال غزوة الخندق المعلومات الكاتب:
اللقب:
رئيس المنتدى
الرتبه:
الصورة الرمزية
البيانات عدد الرسائل : 7851 المنطقة : milano المزاج : الحمد لله البلد : نقاط التميز : 13877 تاريخ التسجيل : 27/12/2008
الإتصالات الحالة: وسائل الإتصال:
موضوع: النموذج النبوي من خلال غزوة الخندق
لقد كانت غزوة الخندق أكبر المعارك أثرا في اهتزاز المواقف، واختبار السرائر وظهور نفائس القدوة النبوية، ولم يكن عبثا أن يجيء السياق القرآني لنقش هذه الأسوة في سورة الأحزاب، وفي قلب الآيات التي صورت آفاق المعركة، قال - تعالى -: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة…، وهذه إشارة واضحة إلى المستوى التربوي الذي وصلت إليه هذه القدوة في هذه الملحمة. ومن هنا جاءت ضرورة استحضارها في سحمة الظروف الراهنة، فقد عادت (قريظة) من جديد لتؤلب (الأحزاب) في غياب خطة من المواقف أو خندق يحمي مقدسات الأمة، وفي استعداد تام لإعطاء كل ثمار (المدينة) للأحمق الغربي المطاع، دون شرط ولا قيد! وتتفاقم مأساة الأمة في حين يتسلل الناس لِواذا دون استئذان لمواقفهم المبدئية أو قناعاتهم التاريخية، فعسى أن يساهم هذا الجَُهد في الالتحاق بالركب، واستجلاء حقيقة القدوة والقيادة بإلقاء الأضواء على العلاقة النوعية بين القائد والجند، تلك العلاقة التي تجعل سلطان المحبة أقوى من شُرطِيِّ الإكراه، وحاجزَ الاحترام أسمى من حاجز الخوف، وفي هذا المنحى تتحد مادة القدوة والقيادة في المعجم التربوي الذي يجعل القدوة والقائد مترادفين على عكس ما يشاهد اليوم من انفصام بين هذين المحورين. لقد أشاعت غزوة الخندق جوا نفسيا هز الكيان الإسلامي، إذ استطاع اليهود تدويل المعركة، وبناء الأحلاف، وحشد الحشود، وقد صورت الآيات القرآنية توتر الموقف أروع تصوير. وبعيدا عن السرد التاريخي للوقائع، فسأكتفي هنا بإبراز جوانب من القدوة التي تشبث بها الصحابة في سُدفِ الخوف لتوصلهم إلى دفء الأمان بإشراقة الإيمان. ولن أوزع هذه القدوة توزيعاً حدودياً فكل حدث في المعركة ينطق بتفتيت الحواجز، كل مشهد تتفاعل فيه النماذج وتتناغم فيه الألوان، ويتملى فيه المتوسمون سموَ القدوة وشموليتها. ولذلك قسمت الموضوع إلى مشاهدَ معلقا على كل مشهد: المشهد الأول: العمل الجماعي في الخندق: عن أنس: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا محيبين له: نحن الذين بايعوا محمـــدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا 2 وعن البراء بن عازب قال: رأيتُه – صلى الله عليه وسلم - ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبارُ جلدةَ بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صـلينا فأنزلن سكينــة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بـغوا علينا *** وإن أرادوا فتنـة أبينا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها3. وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجرين4. لقد كان في مبدأ حفر الخندق الذي ذكر أهل السير أنه من اقتراح سلمان – صلى الله عليه وسلم – 5، تأصيل لاستيراد الخطط الحربية المتطورة وغيرها من مستلزمات الرقي، وينبغي ألا يكون مبدأ الانفتاح آلية لتغطية تسلل المفاهيم الهدامة دون عرضها على مصفاة الفكر الإسلامي، حتى لا تمس بثوابت الأمة وقيمها الحضارية. وفي هذا المشهد الحي تطالعنا المشاركة الفعلية للقائد في ميدان العمل، بهذا السمو واستفراغ الوسع فتكاد حجُب الواقع تضفي عليها ضربا من الخيال والأسطورة. إنّ عامة الناس ليكتفون بأقل من هذا فابتسامة القائد المتغطرس تجعل الناس ينسون فظاظته وعنجهيته ويندفعون في العمل الشاق على بَرْقها الخُلَّب، ويبنون على هيكلها المحنط ألوانا من الحكايات والأساطير، تؤلَّف فيها الكتُبُ وتصبح مثلا يتلى وأناشيد ترجَّع، ومادة يَتلهَّى بها العابثون في السمر. ما نشاهده هنا هو نُقلة نوعية في تعامل القادة مع شعوبهم من جمود المراسيم إلى فاعلية المفاهيم. في هذه الإطلالة تتشابك المعاني وتتواردُ الأفكار وتتداخل النماذج: هل نقف عند مشهد التواضع الذي ترسِمه بصورة حية تلك الأتربةُ وذلك الغبارُ الذي يغطي البطن الشريف، أم عند مشهد المساواة العملي الذي لا نعرف عنه اليوم أكثر مما نعرفه عن العنقاء. أم عند مشهد الصبر على هذا العمل الشاق حيث يتناسى القائد معاناته الشخصية في خضم المعاناة الجماعية، فيُفيض على أتباعه رهاما من كلمات الرحمة والحنان. إن هذا المزيج التربوي يُحدث في النفوس الأثر الكبير، ولكن، هل تقف الروافد التربوية عند هذا الحد؟ كلا إن النفوس التي تُعايش هذا الإعصار من الخوف والمشقة والإرجاف لتحتاج حاجة ماسة إلى الترويح الذي تَميسُ معه النفس دون أن تفقد طابع الجد والرزانة؛ وهنا يتفجر منبع جديد من منابع هذه القدوة التي لا تنضب ولا تَغيض. إن القائد الأعظم يرتجز بأبيات ابن رواحة، بما فيها من مُثل جميلة وأدعية جليلة تسمو بأصحابها إلى العالم العلوي، لكنها تتماوج في أنشودة أخاذة تروح عن الجند وتهدئ من أعصابهم. ويزيد في تأثيرها ونفاذها إلى شغاف القلب صدورها من القائد الذي يشارك الرعية في أعمالهم وهمومهم، يقول الدكتور البوطي: " فأنت تجد أن النبي - صلي الله عليه وسلم - لم يندُب المسلمين إلى حفر الخندق ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحا هادئا، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنّان، ليمسك معول أحدهم فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذانا ببدء العمل …"6 اهـ وفي هذا المشهد يبرز منحى آخر من مناحي التربية هو التذكير والوعظ، ولكنه ينساب ههنا في قالب التنغيم الذي يمتص التوتر والمشقة: اللهم إن العيش عيش الآخرة..، وهنا تؤتي هذه الرسالة التربوية أكُلها فتحدث الاستجابة دون قسر ولا تكلف: نحن الذين بايعوا محمدا.. وهكذا يتكرر الإنشاد، وتصدح النغمات مخففة هذا الجو المفعم بالمعاناة والأزمات. يقول الحافظ ابن حجر معلقا على الحديث: " وفيه أن إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب "7 اهـ ويظل مد القدوة في تصاعد وتنام حينما يكشف الأتباع عن درجة من الجوع فإذا القائد يعاني درجات منه، وهنا يقع التأسي، وتهدأ حِدة الشكوى. المشهد الثاني: خوارقُ أثناء الحفر: عن جابر – رضي الله عنه - قال: "إنا يوم الخندق نحفِر، فعرضت كُدية شديدة، فجاءوا النبي - صلي الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كُدية عرضت في الخندق، فقال أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقا، فأخذ النبي - صلي الله عليه وسلم - المعول فضرب، فعاد كثيبا أهْيل (أو أهيم) فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي - صلي الله عليه وسلم - شيئا ما كان لي في ذلك صبر، فعندك شيء؟ فالت: عندي شعير وعَناق فذبحت العَناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرمة8، ثم جئت النبي - صلي الله عليه وسلم - والعجين فد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت طُعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له قال: كثير طيب، فقل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنّور حتى آتي، ثم نادى المهاجرين والأنصار فقال لهم قوموا.. فلما دخل جابر على امرأته قال ويحك جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم! قالت: هل سألك كم طعامك؟ قال: نعم، قالت: الله ورسوله أعلم. ثم جاء النبي - صلي الله عليه وسلم - فقال: ادخلوا ولا تَضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية! قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة9. وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمرَ الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر! أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني10. وفي هذا الموقف الصعب يفزع الناس إلى القائد الأعظم لِيُغيثَهم في الملمات الدنيوية كما يفزعون إليه في المهمات الأخروية، وهو لا يعتذر بشدة الجوع بل يشمر عن ساعد الجد، ويضرب الكُدية. وهنا تتدخل المعجزة لتضع اللمسات الأخيرة ـ إن صح التعبير ـ على هذه الشخصية الكاملة البناء، والتي وصلت في بشريتها المنتهي. ويرسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجنوده المستقبل الباسم، فتبرز القصور الحمراء والقصر الأبيض من خلال لمعان قدح المعول على الحجارة، ويحلق بالصحابة الأمل الباسم بعيدا عن واقعهم المتجهِّم، وربما أدركوا أن هذه الكدية إن هي إلا رمز لحالتهم الراهنة، فينبعث فيهم الأمل والتفاؤل. وفي هذا المشهد يتواصل المد التربوي ويصب في الهدف العسكري حينما ترتفع معنويات الجند بهذه الطاقة الروحية التي أظلتهم في موقف استفرغوا فيه طاقتهم الجسدية، وتوترت أعصابهم بشكل ملحوظ، حتى عبر الشيخ محمد الغزالي عن هذه المعركة بأنها معركة أعصاب وليست معركة خسائر11. ثم يكبر النبي - صلي الله عليه وسلم - في وسط هذا الجَُهد ليزود أصحابه بدفقة جديدة من الحماس، وهكذا يستمر إيقاع القدوة متناميا ينزع الرتابة والسآمة عن النفوس باستمرار. لقد كانت الثقة التامة تتأسس في النفوس تجاه شخصه الأعظم ? فهو الذي يُفزع إليه في كل الأمور، ليقدم الحلول لكل العقبات. وفي هذا المشهد يتراءى معنى الزهد الذي يبعد عن الأذهان أن يكون لهذا النبي الكريم ما لأرباب الدنيا من مطامح شخصية. ولا ينبغي أن يحجب عنا وهجُ المعجزة تلك المعاني المزهرة من استعلاء على الجشع والحرص، والتحليق في فلك الإيثار، والقيام على خدمة الرعية في أحلك الظروف. إنها إشراقة في النفس وسخاء في الطبع، ولقد ضرب النبي - صلي الله عليه وسلم - في ذلك المثل الأعلى كما قالت عائشة: " كان النبي - صلي الله عليه وسلم - أجود الناس … "12. وفي فعله – صلى الله عليه وسلم - وأمره لامرأة جابر دلالة واضحة على منهج التكافل الاجتماعي الذي يسري في جل النظم الإسلامية سريان الدماء في العروق. وتتفتق من أكمام هذه المعجزات نفحات التثقيف والتربية لهذه الجماعة المؤمنة على مبدأ الأخذ بالأسباب حيث لم يغِب هذا المنهج في ثورة الخوارق، فقد شهد الطعام عملية تكثير لا إنشاء، وأشرقت الآفاق المستقبلية للفتوح، في إطار المجهود البدني الشاق. المشهد الثالث: من تقنيات الحرب: لما بلغ النبي - صلي الله عليه وسلم - غدرُ بني قريظة بعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير، وقال: " انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أما لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس"، فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون وقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحنوا له وقالوا: عَضَل والقارة، أي أنهم على غدر كغدر عَضَلٍ والقارة. 13 في هذا المشهد منظومة كاملة من أسرار الحرب تتمثل في: أ- عدم التسرع في التصديق بالمعلومات، والتأكد من صحة الشائعات. ب- التخاطب بالرموز للحفاظ على تماسك الصف، والسرية التامة. ج- السيطرة على الإعلام، وعدم بث ما يضعف معنويات الجند. د- ضرورة معرفة القائد لكل الملابسات التي تحيط بأرضية المعركة فعلى أساس هذه المعرفة الدقيقة تبنى الخطط الحربية الناجحة. المشهد الرابع: المراوضة على الصلح: ولما اشتد البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة كي ينصرفوا عن قتال المسلمين، فأشارا عليه بألا يفعل ذلك، فتهلل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -14. في هذا المشهد يتكرر عقد مجلس الشورى كمبدإ في الحرب كما هو في السلم، وفي هذه الإطلالة يتجلى لنا ما يخفق بين جوانح المصطفى من رحمة بهذه الأمة ورغبة في تجنيب أصحابه كل المكاره، ووفائه للأنصار، واعتماده على مراكز التأثير وصنّاع القرار، وما كان طبع المصطفى – صلى الله عليه وسلم - يرضى بدفع الفدية للمتغطرسين فإن العزف على هذه الوتيرة لا يروق للشجعان، وقد ضربت الحرب طبولها وحمي الوطيس، وكأنما سرحت أرواح الأنصار معه في نفس المغنى، فصدرت عن الطرح الذي تهلل له وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومهما وقف الفقهاء عند هذه النقطة ليقرر بعضهم حكما فقهيا يتعلق بالصلح على المال، ودفع الجزية للأعداء، فإن الأفق النبوي كان أرحب من هذه المنحى، والغرض التربوي كان يستصدر من الأنصار حكما يتماشتى مع عزة الإسلام وغلبته قبل أن يستصدر بعضُ الفقهاء أحكامَهم من مسألة لم تستقرَّ بعد ولم تتحدد ملامحها، ولهذا ذكر أهل السير أنه لم يقع من الصلح إلا المراوضة. 15 ويتراءى في ثنايا هذا المشهد هدف حربي بارز يتمثل في شق صف العدو، وتفتيت قوته وتحطيم نفسياته، وذلك لأن التلويح بالمال يُضعف الجانب الروحي والمعنوي. ويقابل هذا المبدأ على المستوى الداخلي مبدأ آخر هو رفع معنويات الجند وهما توأمان حربيان أنتجهما مخاض التفكير في كسب هذه المعركة الخطيرة. يقول منير محمد الغضبان معلقاً على هذا الموقف -: " وبقي الفكر البشري يَجهد ويدأب فاتّجه إلى تحطيم الحصار عن طريق شق صف العدو، بإعطائه ثلث ثمار المدينة، ثم التراجع عن الفكرة عند استعداد الجيش للتضحية …"16اهـ المشهد الخامس: السعي إلى اختراق صفوف العدو: * وقد أتى نعيم بن مسعود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنت رجل واحد فخذِّل عنا إن استطعت … والقصة معروفة في السير. 17 * عن حذيفة ? قال: لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقُر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد …(ردّد ذلك رسول الله ثلاثا) ثم قال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعَرهم علي. فلما وليتُ من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يَصْلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميَه، فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تذعَرهم علي ولو رميته لأصبتُه، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قرَرْتُ فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عَباءة كانت عليه يُصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، قال: قم يا نومان. 18 تَصُبُّ قصة نعيم في الخط الذي أشرنا إليه سابقا، والمتمثل في تفتيت قوة العدو، وتحطيم نفسياته. هذا مع إقرار مبدإ الخدعة في الحرب وأن الصراع لا يقتصر على قراع الصوارم بل يتجاوز إلى معركة كبيرة تلتحم فيها كل الطاقات. وفي قصة حذيفة يتحدد الطابع الخاص للأوامر العسكرية في الإسلام حيث تصاغ في قالب تربوي متنكرة في زي العرض والتخيير، وقد انكسرت سَورتها برافد الترغيب. يقول عبد الله محمد الرشيد منوها بهذه القاعدة الحربية: "وقد قرر العسكريون أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترهيب والتشجيع ولا تلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة"19 وفي هذه القصة أيضا تظهر أهمية المخابرات في الحرب، وضرورة معرفة أسرار الأعداء وخططهم، قال النووي: "وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو"20 وكذلك يظهر في هذه القصة أهمية إطلاع القائد على كفاءات الجند ومهاراتهم لاستخدامها في الظرفية الملائمة. وقد ظهر سر اختيار النبي - صلي الله عليه وسلم - لحذيفة حينما تفاقم الموقف واحتد، (وطلب أبو سفيان أن يعرف كل امرئ جليسه)21فظهرت رباطة جأش حذيفة في موقف لا يخلوا من فكاهة ومسحة تندر. وفي هذا المشهد نفحات من رحمة المصطفى ? بأصحابه ومداعبتهم له ليمسح عنهم غبار الحرب وأتعاب العمل. ويُسدل الستار على المعركة، ويختمها القائد الأسوة بتلك الكلمة الإيجابية: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا.. "22 إنها ختام مسك ينقل الجند إلى عالم مفعم بنشوة النصر، وتناس للآثار النفسية لهذه الأزمة وما عسى أن تحدثه من ثغرة في بناء الفرد. خاتمة: من خلال هذه الجولة التي عايشنا فيها مشاهد من آفاق هذه الأسوة الشريفة، يمكننا أن نسجل ملاحظتين أساسيتين: 1-أن غزوة الأحزاب كانت بمثابة امتحان لختم المرحلة الدفاعية، والدخول في مرحلة الهجوم، سُلِّمتْ فيها شهادات التأهيل للذين جعلوا من القدوة النبوية برنامجاً للمطالعة قرءوا على ضوئه هذا الامتحان الصعب قراءة ثانية: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله.. 23. 2- تَكاملُ القدوة في شخص النبي - صلي الله عليه وسلم - جعل كل فرد جنديا على مستوى الطاعة، قائدا على مستوى المسؤولية. وهكذا يبقى النموذج النبوي في هذه الغزوة حركة خالدة، تتهادى في حلل التاريخ السابغة، ويتزود منها أصحابُ الهمم، وخاصة في واقعنا الراهن حيث أحدق الخطر الخارجي بالأمة لاستئصال شافتها، ودبَّ الإرجاف والإحباط في كيانها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش: 1 الأحزاب الآية: 21 2 فتح الباري: رقم 4099 ومسلم بشرح النووي ص 172، كتاب الجهاد والسير: (غزوة الأحزاب). 3 فتح الباري: رقم 4106 ومسلم بشرح النووي ص 171 كتاب الجهاد والسير (غزوة الأحزاب) 4 سنن الترمذي برقم 2476 وقال عقبه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. 5 الفصول في سيرة الرسول ص: 94 والدرر في اختصار المغازي والسير ص: 121. 6 فقه السيرة النبوية لمحمد سعيد رمضان البوطي، ص 219، ط 11 دار الفكر. 7 فتح الباري لابن حجر العسقلاني 7/395 . 8 البرمة بالضم قِدر من حجارة، القاموس 3/80 ط الثانية. 9 فتح الباري رقم 4101 10 "رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبد الله وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات "(مجمع الزوائد 6/131) وعزاه الحافظ في الفتح إلى أحمد والنسائي وحسن إسناده: (الفتح 7/397). 11 فقه السيرة للغزالي ص 297 ط دار العلم 12 فتح الباري رقم 6 13 سيرة ابن هشام: 3/232 ط دار إحياء التراث العربي بيروت وانظر في تفسير ابن جرير 10/21-82 14 هذه القصة رواها الهيثمي مفصلة وذكر بأنها في الطبراني بسند فيه محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية الرجال ثقات (مجمع الزوائد 6/133 وقد ذكرت القصة بالمعنى اختصارا). 15 سيرة ابن هشام (3/234) دار إحياء التراث العربي. 16 المنهج الحركي للسيرة ص 416 مكتبة المنار. 17 كتاب المغازي للواقدي (2/484)، وسيرة ابن هشام (3/240) وعزاه ابن كثير إلى ابن إسحاق، سيرة ابن كثير (3/216) وانظر الفتح (7/402). 18 مسلم بشرح النووي ص 145 المطبعة المصرية ج12 كتاب المغازي والسير: باب غزوة الخندق. 19 القيادة العسكرية في عهد الرسول¬ - صلى الله عليه وسلم - د. عبد الله محمد الرشيد، دار القلم/دمشق 20 شرح مسلم للنووي، ص146، كتاب المغازي والسير، باب غزوة الخندق 21 انظر مجمع الزوائد6/136/ط دار الفكر، فقد عزاه إلى البزار وقال رجاله ثقات وقد حسن ابن حجر إسناده في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق الأعظمي، الحديث رقم 4329 22 الفتح تحت رقم 4109 23 الأحزاب آية 22
الموضوع الأصلي : النموذج النبوي من خلال غزوة الخندق // المصدر : منتديات السمو العالي // الكاتب: SAMI