بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي كل زمان مِن أزمنة التاريخ تواجد هؤلاء القوم -أعني المنافقين- بصور مختلفة وأنماط متفاوتة، فرقتهم الأزمنة والأمكنة وجمعهم الداء نفسه؛ فتشابهوا في صفاتهم كلها التي حاصلها إبطان غير ما يُظهرون، فقلوبهم في واد مظلم ملأه الكفر والشك والفساد، وأبدانهم في واد آخر يتجملون بها أمام مَن بيده القوة والسلطة بمعناها الواسع -برًا كان أو فاجرًا-، باحثين بهذه الازدواجية عن مكسب ولو رخيص، وجائزة ولو قليلة؛ فباعوا دينهم واشتروا دنياهم، وكفروا بقلوبهم وزعموا الإيمان: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93].
الواحد منهم قد يكون منافقًا عليم اللسان، وقد يكون رويبضة؛ وهو الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، وقد يكونون مِن جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد يكونون رؤوسًا جهالاً يُسألون فيفتون بغير علم فيَضلوا ويُضلوا.
وليس مقصودنا حصر هذه الأوصاف، بل المقصود رصد بعض هذه الصفات والأفعال التي يقصدون بها التعمية على الحق والترويج للباطل، وكذا دورهم في مجابهة الأنبياء وأتباعهم.
فمن ذلك: عدم قبول حكم الله مع زعمهم الإيمان:
الانصياع لحكم الله يقتضي طهارة ونقاءً في القلب، وتسليمًا لحكمة الله، وانخلاعًا مِن حظوظ النفس وشهواتها، وهو ما لا يتوافر في قلوب قد اجتاحها النفاق، مِن أجل ذلك كله استثقل المنافقون هذا التسليم لله في حكمه، وجرؤوا مع ذلك على ادعاء الإيمان وزعم الطاعة!
وعجبا لهم.. ! {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَـٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور: 47-48]، ولفساد قلوبهم لا يقيمون فيها لحكم الله وزنًا، ولئن فعلوا يومًا فلمصلحة يحصلونها أو غنيمة يحوزونها {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿٤٩﴾ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 49-50].
بخلاف أهل الإيمان المتصفين بالإيمان والفلاح: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51-52].
وهؤلاء المنافقون في المقابل يحترمون -أو هكذا يزعمون- الحكم الوضعي الذي اختاره له أولياؤهم ويحبونه، ويفضلونه على حكم الله مع أنهم أعلنوا الإيمان والتسليم ظاهرًا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿٦٠﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60-61]!
يفعلون ذلك حيث لم تتحقق فيهم صفة الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، ولو دخل اليقين قلوبهم لما احتكموا بحكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ومِن ذلك أيضًا: المناداة بفصل الدين عن الحياة:
فهم بعد ما رفضوا التحاكم إلى شرع الله في نزاعاتهم أبوا كذلك تطبيق هذا الشرع الحكيم في حياتهم ومعايشهم، إذ احتوى الشرع الحكيم على قواعد وضوابط مِن أجل إقامة العدل والحق الصادرين عن الوحي الإلهي؛ مراعاة لمصلحتهم ومصلحة غيرهم، وحقوقهم وحقوق غيرهم، والأهم مِن هذا سياسة الدنيا بالدين، وإصلاح الخلق بدين الحق، إلا أن هذه المعادلة لم ترق القوم، ولم توافق قلوبهم المريضة التي أُشربت حب الدنيا.
وها هو شعيب -عليه السلام- "كمثال" يحاول إصلاح قومه -ويا له مِن مصلح مهدي-، ويقول لهم: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٨٥﴾ بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود: 85-86].
فما كان منهم إلا مناداته بفصل دينه وصلاته وعقيدته عن حياتهم وكسبهم ومعاشهم، و{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
وكأنه ليس مِن الرشاد فعل ما يدعو إليه شعيب -عليه السلام- مِن إصلاح الدنيا بالدين، والعيش وفق الأوامر الإلهية، وكذبوا والله.. فلا تستقيم الحياة بغير نور مِن الله وابتغاء رضاه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، ولكنهم عبيد الدنيا، وعبيد لمفرداتها مِن: درهم أو دينار، أو خميصة أو قطيفة، فتعسًا لهم.
ومِن سماتهم كذلك: النفور من ذكر الله:
ما أشد ضيق صدورهم بكل ما يذكرهم بالله واليوم الآخر، والحق والدعوة إليه، فتجدهم يبالغون في إبعاد هذا الصوت الذي يخاطب الضمائر ويعريهم أمام أنفسهم: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].
وهذا نوح -عليه السلام- يدعو قومه ولا يجد منهم إلا صدًا ونفورًا: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7].
وهذا النفور إنما مصدره البغض الأعمى لما أنزل الله مِن آيات حتى إنهم يهمون بالتنكيل بتاليها؛ كراهة لما يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج: 72].
لذلك فمن غير المستغرب منهم ردود أفعالهم المتشنجة، وشدة نفورهم مِن الذكر والتوحيد ودعوة الحق: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
وأولئك لهم التعاسة والضيق في الدين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿٨﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 8-9].
ولهم كذلك العذاب الشديد وحبوط الأعمال في الآخرة: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿٢٧﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّـهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27-28].
ومن ذلك: سوء الأدب مع الله ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم-:
تعظيم الله وشعائره من تقوى القلوب التي لا يتحلى بها المنافقون، وبعد أن ساء أدبهم مع الله بردهم أحكامه والنفور من ذكره؛ ساء أدبهم مع الله -تعالى- نطقًا ينطقونه وجرأة يتقحمونها، فقديمًا بلغ الفجور بأساتذتهم في الشر من اليهود وقالوا في الله قولاً مهلكًا لأصحابه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]، {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة: 64]، وهكذا راح أفراخهم مِن المنافقين يقلدونهم في اجترائهم على الخالق -سبحانه-.
ولربما تكلموا في كلام الله -تعالى- بما لا يليق: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿١٢٤﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125].
ولربما تكلموا في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك بما لا يليق مع مقام النبوة: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61]، أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه -استهزاءً وسخرية- فرد الله -تعالى- عن نبيه ودافع عنه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61]، بل توعد مَن يؤذون خليله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالعذاب والنكال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
وقد يقع أحيانًا أن يسيئوا الأدب مع المؤمنين والصالحين محاولين القدح فيهم أو السخرية منهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، وهذا مما لا ينبغي فيه الهزل واللعب، وهم ما أساؤوا الأدب مع المؤمنين إلا بقصد القدح في دين الله، وهل حملهم على السخرية منهم إلا لأنهم يدلون على دين الله وقد حملوه بيْن أضلعهم؟ فهم في حقيقة الأمر أرادوا الاستهزاء بالله -تعالى- ففعلوا ذلك على هيئة السخرية من هؤلاء المؤمنين به -تعالى- {قُلْ أَبِاللَّـهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴿٦٥﴾ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66].
ومن ذلك أيضًا: أنهم يعرف في كلامهم العداوة لله ولأوليائه:
فلما امتلأت قلوبهم حقدًا على المؤمنين، وأظلمت قلوبهم عداوة لهم؛ بدر منهم ما يبين عن مكنون صدورهم رغمًا عنهم، وزلقت ألسنتهم ببعض ما أضمروه: {قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، وما أبدوه من حقد وغل وحسد يجاهدون في كتمه وإظهار خلافه، ولكن يأبى الله إلا أن يفضحهم بما تزل به ألسنتهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29]، بلى يعرفهم كل ذي بصيرة من طريقتهم التي يتكلمون بها وأسلوبهم في سوق الحديث: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
وما أشبه الأواخر منهم بالأوائل: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
ومن سماتهم المميزة: الاضطراب الشديد في المحن وعدم نفعهم وقت الشدة لأوطانهم:
فهم عبيد الدنيا لا يعلمون للنجدة عنوانًا، ولا للشهامة طريقًا، ولا جربوا للتضحية طعمًا، أفتطمع بعد ذلك أن يقال لهم: أوطانكم؛ فيلبوا النداء.. أو أعراضكم؛ فتجري في عروقهم دماء الغيرة وحميتها!
وإذا علمتَ ذلك وتيقنت منه ثم رأيت الوطيس قد حمي، والسيوف قد برق لمعانها والدماء قد تناثرت ههنا وههنا {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 10-11].
فلا تحسبن أن هؤلاء المنافقين ضعيفي الإيمان سيسارعون حتى يكونوا في عداد الشهداء، ولا تنتظر منهم إذن عند اللقاء إلا جبنًا، ولا لوعد الله بالنصر التمكين إلا شكًا وارتيابًا {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢﴾ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 12-13]، بل دون ذلك وهو مجرد فكرة القتال تصيبهم بما يشبه الموت خوفًا وفزعًا: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20].
فعجبًا لمن يوليهم ويبوأهم ويرفعهم، وقد وضعهم الله -تعالى- وبيَّن أحوالهم.. وإلى الله المشتكى!
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-..