إسرائيل ليست بحاجة إلى أسباب لكي تعتدي على غزة أو غير غزة لأنها دولة قامت بداية على العدوان والقتل والتدمير والتشريد. أتى الصهاينة إلى أرض الشام وفي رؤوسهم طموح بإقامة وطن قومي لليهود على أرض يسمونها أرض الآباء والأجداد، التي تمتد وفق وعد سيدنا إبراهيم من الفرات إلى النيل، أو من طرابلس في أواسط الساحل الشامي إلى العريش في سيناء وفق وعد سيدنا موسى.
ابتدأت الصهيونية بعدوان هادئ بتشجيع ودعم من بريطانيا، وتدرجت بعدوانها بعد قيام الدولة إلى أن وصلت مرحلة الضرب الدموي ذات اليمين وذات الشمال، إسرائيل صنعت شلالا من الدم منذ أن قامت، وتقديري أن الشلال سيستمر ما بقيت.
تختلق إسرائيل الأسباب والأعذار مع كل عدوان جديد تشنه على الفلسطينيين وغيرهم من العرب، وكل اعتداءاتها في النهاية تخدم الهدف الأعم والأشمل الذي تعمل على تحقيقه. اليوم هو دور غزة في القصف والتدمير وسفك الدماء، وهي تحشد قدرات عسكرية ضخمة بحرا وبرا وجوا في تنفيذ عدوانها. لماذا أتى دور غزة، وما هي الأسباب المباشرة التي دعت إسرائيل إلى هذه الجولة الدموية؟ ألخص الأسباب فيما يلي:أولا: هذه حرب مكملة للحصار المضروب على الشعب الفلسطيني منذ أن فازت حماس في الانتخابات التشريعية، والمضروب بصورة شديدة على غزة منذ سيطرة حماس على القطاع.
كان الحصار يهدف إلى إسقاط حركة حماس، وإخراجها من الحكومة ومن السلطة الفلسطينية عموما وذلك من خلال إنهاك الحركة معنويا وأخلاقيا، ومن خلال تأليب الناس عليها عسى أن يقوموا بتحرك جماهيري يضحي بحماس من أجل لقمة الخبز.
وكان الظن أن حماس ستسقط خلال مدة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر من سيطرتها على غزة، لكن الأشهر مرت وحماس بقيت صامدة، واستطاعت أن تدبر أمورها جيدا في إدارة القطاع وتحقق مزيدا من التأييد على المستويات الفلسطينية والعربية والإسلامية.
الحرب الآن هي الخيار البديل للحصار. إنهم يحاولون بالحرب تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه بالحصار. من هم هؤلاء؟ هم المحاصرون لغزة وهم إسرائيل والسلطة الفلسطينية وأنظمة عربية وبقية دول العالم. شركاء الحصار هم شركاء الحرب، وجميعهم معنيون بإنهاء سلطة حماس في غزة.
ثانيا: اهتمام شركاء الحصار على غزة بإسقاط سلطة حماس نابع أساسا من رؤيتهم للحل الخاص بالقضية الفلسطينية.
هناك مشروع يقوم على حل يسمى بحل الدولتين الذي ينتهي، وفق مادة الاتفاقيات المتوفرة لدينا مثل اتفاقيتي أوسلو وطابا، إلى كيان فلسطيني يعمل وكيلا أمنيا لإسرائيل يسميه الفلسطينيون المتساوقون مع الحل دولة فلسطينية.
بسيطرتها على القطاع أفسدت حماس على الأميركيين والإسرائيليين مشروعهم، الذي هو مرتبط أيضا بالرؤية الأميركية الإسرائيلية لما يجب أن تكون عليه المنطقة العربية الإسلامية المسماة بالشرق الأوسط. ولهذا كان لا بد من إسقاط حماس وإعادة قطاع غزة إلى بيت الطاعة ليكون مشمولا بالحل القائم على خريطة الطريق الذي يجند الفلسطينيين ضد الفلسطينيين.
ثالثا: حماس حركة مقاومة إسلامية تعتبر الاعتراف بإسرائيل حراما شرعا، وعلى الرغم من أنها مستعدة لهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، فإنها غير مستعدة للتخلي عن فكرة الأرض الإسلامية المقدسة والواجب الشرعي الخاص بتحرير المقدسات الإسلامية. بالنسبة لإسرائيل تشكل حماس خطرا ماثلا أمامها الآن، وربما خطرا أشد مستقبلا بسبب إمكانية حشد طاقات إسلامية في دول عديدة للمساهمة في المجهود الجهادي. إنها حركة مقاومة دينية تلقى آذانا صاغية من ملايين المتدينين في المنطقة العربية الإسلامية.
حماس بالنسبة لإسرائيل لا تتوقف عن تحسين أدائها الجهادي بالتدريب والتنظيم والسرية وتحسين وسائلها القتالية وأساليبها، وهي تنظيم منهمك في الإعداد والاستعداد، ويوميا يراكم المزيد من القوة التي تشكل خطرا على أمن إسرائيل.
رابعا: حماس محسوبة على ما أسماه الرئيس بوش "محور الشر" الذي يضم إيران. إسرائيل مرتابة جدا من إيران، وكذلك الولايات المتحدة والعديد من الأنظمة العربية، وجميعهم يعملون على تحجيمها، والانقضاض عليها إن أمكن لأنها تمثل عنصرا جديدا في المنطقة من ناحية الطموح الاستقلالي القيادي، ومن ناحية التطوير العلمي والتقني والاعتماد على الذات.
سواء نوت إيران أو لم تنو تغيير الأوضاع في الوطن العربي، فإنجازاتها في حد ذاتها تشكل عامل تحريض للشعوب العربية على حكامها الذين استرخوا للضعف والتخلف. وهذا في حد ذاته يعمل ضد المصالح الإسرائيلية والأميركية التي لا تتحقق إلا بشعوب متخلفة جائعة مهزومة.
عملت إسرائيل ومعها أميركا وأنظمة عربية على التمترس خلف فكرة المذهبية وأخذت تغمز على الشيعة بوصفهم مصدر خطر على السنة. ركب موجة السنة والشيعة كل من والى الأنظمة العربية وأميركا وإسرائيل، وصبوا جام غضبهم على حماس التي تخون أهل السنة في نظرهم. فشلت محاولات الفتنة واستمرت حماس في موقفها الباحث عن داعمين للمقاومة الفلسطينية.
خامسا: تشكل سلطة حماس في غزة إحراجا متواصلا للسلطة الفلسطينية في رام الله وللأنظمة العربية بسبب الحصار المضروب على القطاع.
أدى الحصار إلى تدهور الأوضاع المعيشية والصحية في قطاع غزة، وأدت قلة الأدوية والأجهزة الطبية إلى وفاة العديد من المرضى والأطفال، وطفق الناس يبحثون عن لقمة الخبز، أو عن بعض الحطب ليوقدوا النار، أو عن وسيلة للسفر من أجل إكمال الدراسة، أو البحث عن علاج أو عمل.
وتسبب ضيق الأحوال بغزة في تركيز وسائل الإعلام العربية وغير العربية على المأساة، وامتلأت شاشات الفضائيات بالصور المحزنة والمؤلمة حول الأوضاع، ووجه المعلقون والمحللون أصابعهم ومناشداتهم واتهاماتهم نحو الأنظمة العربية معتبرين أن المسؤولية هي مسؤولية عربية أولا، وأن على الأنظمة العربية أن تصنع شيئا. وبدأت الانتقادات الشديدة تنهال على النظام المصري بسبب إغلاق معبر رفح بصورة أساسية.
ازدادت الأمور سوءا بالنسبة للأنظمة العربية عندما هبت جمعيات أجنبية خيرية ومؤسسات إعلامية وشخصيات مؤثرة لكسر الحصار على غزة. حازت حملات كسر الحصار على اهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام، وتمت تغطيتها بنوع من المهرجانية على شاشات التلفاز، وأحرجت المزيد من القادة العرب إلى درجة أن رئيس السلطة الفلسطينية عبر عن نوع من الغل عندما وصف سفن كسر الحصار بأنها "سخيفة".
المحافظة على الأنظمة العربية المعوجة، التي يسميها الغرب بالمعتدلة، جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الإسرائيلية الأميركية الآن، وذلك لأنها هي الأدوات التي تسهل امتطاء العرب والإبقاء عليهم بُلْهًا. كان لا بد من القيام بعمل يرفع هذا الإحراج المتزايد للأنظمة الذي من المحتمل أن يقود إلى حركات شعبية غير مرغوب فيها.
سادسا: بات واضحا أمام إسرائيل كما ورد على لسان مسؤولين إسرائيليين سياسيين وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية أن حماس نجحت في تهريب أسلحة وأموال إلى القطاع.
لم تكن معروفة المبالغ التي استطاعت إدخالها عبر الأنفاق، ولكنها أظهرت قدرتها على الإنفاق وصرف رواتب آلاف الموظفين لديها، وصرف معونات للعديد من القطاعات العمالية والحرفية.
أما بالنسبة للأسلحة فبقيت الأمور غامضة جدا بالنسبة لإسرائيل، لكنها تحسست قدرة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة على تهريب أو صناعة أدوات قتالية جديدة.
استغلت حماس والفصائل الأخرى فترة التهدئة للتنظيم والتدريب والتسليح. ولم يضع الوقت سدى بالنسبة لهذه الفصائل، وشعرت إسرائيل بأن القطاع يتحول إلى بؤر عسكرية مستعدة للقتال. وحسب النظرية الأمنية الإسرائيلية، فالضربة الاستباقية هي القرار الصحيح.
توقيت العدوان
مسألة توقيت الحرب أو العدوان مهمة في حسابات الدول والجيوش، وذلك لأن الحرب تتطلب الأجواء المناسبة داخليا وخارجيا، التي لها علاقة مباشرة بحشد الطاقات ودعم الناس والدول. إسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة، ولا بد أنها عملت على تقييم التوقيت بحلوه ومره. وفيما يلي أسباب اختيار الهجوم على غزة في هذا الوقت بشقيها الداخلي والخارجي:
الأسباب الداخلية
أولا: وفق النظرية الأمنية الإسرائيلية، أرى أن الهجوم الإسرائيلي جاء متأخرا وذلك لسببين هما:
أ- تقول النظرية الأمنية الإسرائيلية إن على إسرائيل أن تدمر القوة المعادية قبل أن تمتلك قدرة عسكرية تزعج إسرائيل أو تؤثر على أمنها. هذه هي فلسفة الحرب الوقائية أو الاستباقية. فصائل المقاومة الفلسطينية عملت على الإعداد والاستعداد العسكري على مدى فترة من الزمن، ولم تقم إسرائيل إلا ببعض الاعتداءات الهامشية.
ب- السبب الثاني يعمل ضد السبب الأول وهو أن إسرائيل بقيت مترددة في الهجوم على غزة لأنها لا تعرف تماما ما عند المقاومة الفلسطينية من قدرات سواء كانت تسليحية أو تكتيكية. كانت الفصائل الفلسطينية عبارة عن كف مفتوح أمام أجهزة الأمن الإسرائيلية، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولات في الحرص الأمني الفلسطيني. هذا مؤشر على خلل قد أصاب قدرة إسرائيل التقليدية على جمع المعلومات عن العرب.
ثانيا: ترددت إسرائيل كثيرا قبل التهدئة الأخيرة مع الفصائل الفلسطينية المقاومة في ضرب غزة، وقد لاحظ المراقبون كثرة التهديدات الإسرائيلية بالهجوم الكاسح دون أن يكون هناك فعل. وقد انتهت التهديدات بالموافقة الشفوية على التهدئة.
لكن يبدو أن إسرائيل قد رأت أن التهدئة وفرت الوقت للفصائل الفلسطينية وبالتحديد حماس لتهريب المزيد من الأسلحة ولتعزيز قدراتها التنظيمية والتكتيكية، فقررت الذهاب إلى الحرب. كان واضحا أن إسرائيل قد اتخذت قرار الحرب عندما قامت بتجاوز شروط التهدئة بتنفيذ غارات جوية عدة على أهداف عسكرية في القطاع. قتلت إسرائيل حوالي ثلاثين فلسطينيا وهي تعلن أمام العالم أنها ملتزمة بالتهدئة وعلى الجانب الفلسطيني أن يبقى ملتزما.
ثالثا: لم يختلف التقييم الإسرائيلي بشأن تعثر المسيرة التفاوضية عن تقييم الأطراف الأخرى في أن سيطرة حماس على القطاع