سورة الصف
تحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، والدعوة إلى القتال صفاً واحداً
قصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل
التجارة الرابحة
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الصف هي إحدى السور المدنية، التي تُعنى بالأحكام التشريعية، وهذه السورة تتحدث عن موضوع "القتال" وجهاد أعداء الله، والتضحية في سبيل الله لإِعزاز دينه، وإِعلاء كلمته، وعن التجارة الرابحة التي بها سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، ولكنَّ المحور الذي تدور عليه السورة هو "القتال"، ولهذا سميت سورة الصف.* ابتدأت السورة الكريمة - بعد تسبيح الله وتمجيده - بتحذير المؤمنين من إِخلاف الوعد، وعدم الوفاء بما التزموا به { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}؟* ثم تحدثت عن قتال أعداء الله بشجاعة المؤمن وبسالته، لأنه يقاتل من أجل غرضٍ نبيل، وهو رفع منار الحق، وإِعلاء كلمة الله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}.* وتناولت السورة بعد ذلك موقف اليهود من دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، وما أصابهما من الأذى في سبيل الله، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ناله من كفار مكة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي.. } الآيات.* وتحدثت السورة عن سنة الله في نصرة دينه، وأنبيائه، وأوليائه، وضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة دين الله، بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الحقير {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.* ودعت السورة المؤمنين إِلى التجارة الرابحة، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله بالنفس والنفيس، لينالوا السعادة الدائمة الكبيرة مع النصرة العاجلة في الدنيا، وخاطبتهم بأسلوب الترغيب والتشويق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآيات.* وختمت السورة بدعوة أهل الإِيمان إِلى نصرة دين الرحمن، كما فعل الحواريون أصحاب عيسى حين دعاهم إِلى نصرة دين الله فاستجابوا ونصروا الحق والرسول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ..} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أبدع بيان وإِحكام.تحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، والدعوة إلى القتال صفاً واحداً{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)}.سبب نزول الآية (1، 2):أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سَلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعُ ما في السماواتِ والأرض من مَلَك، وإِنسان، ونبات،وجماد {وإِن من شيءٍ إِلا يسبح بحمده ولكنْ لا تفقهون تسبيحهم} قال الإِمام الفخر الرازي: أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ، قال ابن كثير: هذا إنكارٌ على من يَعِد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين "آية المنافق ثلاثٌ: إِذا وعد أخلف، وإِذا حدَّث كذب، وإِذا ائتمن خان" ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} أي أن، تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه، وأن تَعِدوا بشيء ثم لا تفون به قال ابن عباس: كان ناسٌ من المؤمنين - قبل أن يُفرض الجهاد - يقولون: لوددنا أنَّ اللهَ عز وجلَّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إِيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل: هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى {أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم}؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً، قال القرطبي: ومعنى الآية أنه تعالى يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.قصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(7)يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(9)}.سبب النزول:نزول الآية (:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا ..} حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها.ولما ذكر تعالى أمر الجهاد، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي}؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه "موسى بن عمران" حين قال لقومه بني إِسرائيل: لمَ تفعلون ما يؤذيني؟ {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً - بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة - أني رسولُ اللهِ إِليكم، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من كفار مكة {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي فلما مالوا عن الحقِّ، أمال الله قلوبهم عن الهدى {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله، قال الرازي: وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل، حتى إِنه يؤدي إِلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى .. ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة، قال القرطبي: ولم يقل "يا قوم" كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى "أحمد"، قال الألوسي: وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال حسان: